فلسفة البكاء (3) / ا.جهاد الخنيزي


 فلسفة البكاء (3)

ا.جهاد الخنيزي

(١١)

مازلنا بحاجة لتعميق مفهوم البكائية أكثر مما قلناه من قبل إذ أجد أن الحديث عنها كمنشغل به يشبه الحديث عن شيء نعيشه ولكن لا نعرفه تماما إلا من خلال التجسم في شيء، أو فعل، أو طريقة، وأنا مازلت أتكلم عن المفهوم وإن تطرقت لتمثلاته فإنما لأجل أن نفهمه في مستوى الفكرة، وهذا ليس سيئا تماما فإن التنقل ما بين المفهوم والمصداق شيء طبيعي ومتوقع بل مفيد لكي يقع المفهوم على معناه الخارجي، ويقع الفعل الخارجي على معنى المفهوم.

‏(١٢)

لذا سوف أعرف البكائية على أنها حالة من العيش داخل البكاء إلى أن يصل إلى أعلى مستوى له وهو الانتحاب.

والانتحاب جامع لأمور:

١. صوت.

٢. حزن في مجمل الوجه.

٣. انهمار دمع.

٤. مدة زمنية طويلة.

٥. انطلاقة تامة لا تتوقف إلا بتحقق غاية الانتحاب.

وتلاحظون أنني لم أتحدث عن موضوع البكائية ولم أدخله في التعريف لها لأن الموضوع ليس له علاقة بمفهوم البكائية بل بسببيتها وغايتها، وهذان منفصلان نوعا ما عنها.

‏(١٣)

هناك أمر لم أذكره في تعريف البكائية متعمدا وهو موضوع البكاء، وهو المعبر عنه بسؤال (لماذا) وذلك لاختلاف موضوعات البكاء فقد تكون لموت ابن أو لفقد مال أو خسارة منصب أو موضوعه كارثة طبيعية أو اجتماعية حلت بقوم أو بشخصية ذات مكانة، وغيرها مما قد يكون داعيا للبكائية بالمعنى الذي ذكرناه، أي العناصر مع الحدوث والاستمرار في سببية الحدوث ومقصودنا وجود الداعي للحدوث حتى وإن اختفى الحدث، فالبكائية تحتاج لوجود السبب ولو على مستوى التصور والتقدير والإيمان.

وهناك أمر تجنبته اعتبره من اللواحق سآتي عليه.

‏(١٤)

على أن لموضوع البكاء ميزة أخرى ألا وهي أن البكائية لا يمكن أن تتحقق فيه ما لم يكن لطبيعة الموضوع قيمة مطلقة أو شبه مطلقة وأقصد بها الواسعة جدا، فليس كل موضوع صالح للبكائية مع أنه صالح للبكاء، فالقيم أو الغايات أو الشخصيات العالية تكون محلا للحزن والتأسف عليها لفترة طويلة أو دائمة فيذكر مصابها لذا عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل قتل الأنبياء لأنهم يمثلون الإنسان العالي، ويمثلون الخلافة لله على أرضه، وفي خلقه ﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ البقرة:91

(١٥)

وقتل النبي هو تحد للمشروع الإلهي في الأرض. كما أن إخراج آدم من الجنة كان أمرا كارثيا بالنسبة له حيث فاز الشيطان في الجولةالأولى ضد الإنسان، ونقل أن آدم بكى حين أهبط من الجنة ثلاثمائة عام (حديث رقم 307 - كتاب الرقة و البكاء لابن أبي الدنيا)، وبكى نبي الله يعقوب يوسف ما يقارب العشرين عاما هي مدة فراقه (الفيض الكاشاني، الصافي، سورة يوسف آية ٩٢)، وقيل أربعين عاما(ابن الأثير، الكامل، ج١ ص ١٣٠)

يتبع...


تعليقات