فلسفة البكاء (1)
ا.جهاد الخنيزي
(١)
تأتي الفلسفة بمعنى العلة والسبب، أي البحث في علل وأسباب الأشياء فهي محاولة للخوض في ذاتيات الأشياء عبر إطلاق أكبر كمية من معنى الشيء الذي يمثل هويته الأولى التي بها كان ويكون أبدا، والأحسن من كل ذلك أن نقول أنها الكلام في جوهر الشيء مطلقا كبحث الوجود بعينه كوجود أو فيما يخص شيئا بعينه كمرتبة أقل، فحينما تقول فلسفة الشيء الكذائي أي كل ما فيه من قوة مكنونة فعلية أوجبته بهيئته، وكل ما فيه من إمكان وجود بالقوة لأن يتجوهر بكيفيات ممكنة.
لذا استحقت الفلسفة مكانة البحث في المعقول في الأشياء لا في خواصه المادية التي هي من شؤون الحس والتجربة وما يطلق عليه العلم التجريبي كي لا نحصر العلم فيه إذ العلم أوسع نطاقا من أن يحصر في منهج خاص.
(٢)
أما البكاء فهو سيلان ما في القلب على العين بالقطر وبالهيئة الكاسفة والمتوجعة فالبكاء ليس دمعا فقط بل مجموع من أثرين أحدهما يأتي من حدقتي العين والآخر من مجموع هيئة الوجه وقد تشمل كل البدن.
والبكاء كبكاء معلول للألم، والألم علة إلى الحزن، والحزن له سببية إلى البكاء وليست له علية تامة. ومن هذا نتبين أن البكاء لا يبدو مقهورا للحزن وإنما مقبول له أي يمكن أن يصاحب الحزن بكاء ويمكن أن لا يصاحبه، وحين يوجد البكاء تكون ذروة خروج ما في القلب على ما في الوجه، حتى يستوعب كل الجسد وكل النفس فيتحدا بحسب اندماجية كل إنسان نفسيا مع كربه وألم وحزنه.
(٣)
وجريا على ما اختصرنا من معنى الفلسفة والبكاء يكون المقصد ب (معنى البكائية) ما نراها في ذاتها كما هي، ثم في تشخصها كيف هو كمعنى من جهة وكبكائية من جهة أخرى.
وهذا معنى أن الفلسفة موضوعها الوجود ولو بنحو الموجود المشار له كما بنحو الوجود المطلق الذي هو موضوع الفلسفة الكلي. فالبكائية جوهر وجودي خاص هو ما نقصده بالمعنى وهي هيئة خاصة بنفسها دالة على معناها ومشيرة له وتفعل بمقتضاها الوجودي البكاء.
(٤)
البكائية اسم مصدر لما وجد فعلا، أي أننا نتحدث عن واقعة تحدث فعلا، وتستمر، وهذان الشرطان ضروريان (الفعل والاستمرار) حتى تصبح البكائية ثبوتية، والثبوت دوام في ما يخصها، سواء أكان الباكي واحدا أم جماعة أم جموعا، كما الفرح والغضب والشجاعة وغيرها إذ لها أحوال وأفراد ومراتب صغرى فما فوق حتى تصل إلى مرحلة الجمع أي فرحانية أو بكائية المجموع معا كأي عمل مشترك تمارسه جماعة معا كالإنشاد الجماعي والصراخ الجماعي والمقاتلة معا ضد مقاتلة أخرى.
(٥)
تتمركز البكائية بشرطيها على أنها ظاهرة حزائنية عميقة، ذات نتائج أليمة ما يجعلها تستجلب أسبابها معا، فلا يمكن بحال فصل البكائية عن سببها ونتيجتها إذ هي تعبير أعلى عن وجودهما داخلها بالإضافة إلى أمور أخرى كالناس والغاية والوسيلة. أي أنها تتصل بكل حدث يحدث أثرا طويلا في نفس الإنسان أو أمة، ولا يختفي بسرعة، وإن اختفى دلت الرموز عليه كالعادة والكلمات والتوقيت والتوافق الذهني على معايشته وتبادل رسائل المعنى والفعلية. مثلا بكائية يعقوب على يوسف هي من هذا النوع ﴿ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ يوسف: 84.
يذكرالمفسرون أن سبب البكاء هو الحزن الذي هو سبب ابيضاض عينيه.
ولو تأملنا في فعل نبي الله يعقوب سنجد التأسف على يوسف لصيقا بحالته.
وفي اللغة ترد هذه العبارة:
"أَظْهَرَ تَأَسُّفاً : تَأَلُّماً مَعَ الشُّعُورِ بِالأَسَفِ وَالحُزْنِ" -راجع مادة تأسف في معاجم اللغة-
فالتأسف ألم وحزن مع شعور بهما.
ومسألة الشعور مهمة في كل معنى وحالة نفسية ولو انتفت قد تصل لحد عدم الإدراك أو الغيبوبة المعرفية أو الجهل بالشيء.
فالشعور يقظة داخلية قد تطول وقد تقصر، قد تحضر وقد تغيب وقتا ما ولكن افتراض عدم وجودها غير معقول بتاتا.
يتبع...
تعليقات
إرسال تعليق