فلسفة البكاء (2) / ا.جهاد الخنيزي

 


فلسفة البكاء (2)

ا.جهاد الخنيزي

‏(٦)

مما ينقل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله أنه قال وابنه إبراهيم يكيد بنفسه على يديه "تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا إِبْرَاهِيمُ إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ". صحيح مسلم الحديث 2315، صحيح البخاري 1303. 

وقريب منه ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قال:"لما مات إبراهيم هملت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالدموع، ثم قال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون) الكليني، الكافي، ج٣ص ٢٦٢. 

كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله واضح:

١. الحزن محله القلب.

٢. الدمع في العين.

والدمع أثر هذا الحزن. والبكاء هو مجموع من ذلك كله مع غيره. ولا أقل من القول بأن البكاء أوسع من الدمع فهو تفجع يصاحب بالحزن والدمع.

(٧)

هذه شواهد وإلا فإن البكائية ظاهرة عاطفية وثقافية قديمة لا يمكن تحديد بداية زمنية أو مكانية أو ثقافية لها، فبكائيات تموز البابلية معروفة مشهورة في العراق، وتبكي الشعوب عند نزول الكرب والكوارث بها أو خسارتها في حرب أو عند فقد زعيم ملهم له أثر عظيم، وقصيدة أنشودة المطر للسياب التي يقول فيها "ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع" تحولت إلى قصيدة استسقاء في عالم من اليباب والجذب كما يقول النقاد العراقيون، فهي قصيدة انتحابية بكائية. 

أما بكائيات الحسين عليه السلام فهي الأكثر وجعا في ضمير الإنسان، وفي بثها أسئلة هذا الكرب والبلاء، وكأن في الحسين كل أسئلة الأزمنة قديمها وحديثها التي جلبت مأساة كربلاء. فهي بكائية فوق اعتيادية لأنها مجموعة من الحدث الفظيع وألم القلب الهائل ودموع التفجع، وكرب الإنسان حتى دهش وأدهش.

(٨)

لنعد قليلا إلى البكائية كمفهوم بعد تقديم بعض هذه الشواهد المقتضبة لنقول بأن البكائية قضية في نفسها، وهي ليست بالمستحدثة فالمأساة (التراجيديا) كما الملهاة والدراما  في الفن مسالك ومناهج لعرض القضايا على خشبة المسرح موجودة في الواقع مسبقا، ويكمن هدف تمثيلها كما قال ارسطو في أن:

"التراجيديا هي محاكاة لفعل جاد كامل ذي حجم معين ، في لغة منمقة تختلف طبيعتها باختلاف أجزاء المسرحية، و بواسطة أشخاص يؤدون الفعل لا عن طريق السرد ، و بحيث تؤدي إلي تطهير النفس عن طريق الخوف و الشفقة بإثارتها لمثل هذه الانفعالات" المصدر: ويكبيديا-تراجيديا.

ورغم ما يمكن أن يقال من وجود تشابه في أي ظاهرة إنسانية فإن البكائية قد تختص بشيء ما هو أنها فعل البكاء نفسه كعمل وجهد.

(٩)

ما الذي نعنيه بذلك؟

أرجو الانتباه، عندما قلنا بكائية نقلناها من الحدث إلى الاسم، والأسماء كما الجمل الاسمية تتمتع بالثبات لا لشيء إلا لأنها ليست واقعة في الزمن، فالزمن مفقود في معنى الاسم أو غير متصل بمعناه لا أنه لا يكون في زمن لأن الزمن مطلق يعيش فيه الكل إلا الإله عز وجل.

‏(١٠)

وعلى هذا الأساس تأخذ البكائية قيمتها من فعلها ذاته في نفسها كمفهوم متصور عن كل شيء إلا نفسه كالشيئية والعلمية والشأنية والصفاتية وغيرها مما تكون أسماء فإننا ننشغل فيها بما تعني وإن كانت في الخارج ترتبط بحدوث شيء يشير له اسميتها. أي أن البكائية كمعنى تبقى اسما شاملا للفكرة، حتى وإن كانت وسيلة لشيء ولكنها من شيء جاءت، فهي تشبه المعنى الاسمي من جهة والمعنى الحرفي والتوصلي من جهة أخرى، أي ذاك الذي يربط بين شيثين أو حدثين أو قضيتين. 

وليس هناك من بأس أن يقال بأن البكائية في أصل وجودها اشتقت من فعل خارجي إذ بعد استشباع الفعل بالمعنى يستقل المعنى لنفسه، ويكون ما جاءت منه البكائية قضيتها، وأما ما جاءت لأجله فهو تبشيرها أو تعريفها، أو إنذاريتها لما تشير إليه.

يتبع...

فلسفة البكاء (1)


تعليقات