#خاطرة_الجمعة « الهدية .. قيمتها برمزيتها لا أكثر ولا أقل .. »
ما الذي يدعونا إلى التوقف أمام هذا العنوان؟ وما الذي يمكن أن يقال بشأنه؟ والجواب هو كثرة المناسبات الاجتماعية والطقوس الاحتفالية التي تصاحب بعضها، وكلها تتعلق بطبيعة مجتمعنا، فالهدية ليست في قيمتها المادية، فإن أصغر هدية تكون لها قيمتها المعنوية، وهي تعميق المحبة والتقدير وتوثيق الصلات بين الأفراد وعلى مختلف الجهات والمستويات، ولا يمكننا الاستغناء عنها في كل الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:« الهدية تورث المحبة» الكافي ج ٥ ص ١٤٤. فعندما تصلني مثلًا هدية من أحد زملاء العمل في مناسبة خاصة كــ تكريم أو ما شابه ذلك، ماذا أصنع وكيف أعامله؟ والجواب بالنسبة لي سهلًا، من المفترض أن أنتظر مناسبة مثيلة لأقدم لهذا الزميل ما يستحقه . فالذي تُقدم له هدية، قبل أن يتبادر إلى ذهنه القيمة المادية لها، سيحس في نفسه أنك أكرمته، واعليت مقامه، وغطيته بثوب جميل من الإحترام الدافئ . الواقع أن ما نشاهده اليوم من سلوك اجتماعي يعكر علينا صفو الحياة، ويكدر علينا هذه النعمة . لقد تحولت الهدية في حياتنا العصرية إلى أسلوب تصنيف الناس، أي تعطي دلالة وتعريفًا وتقييمًا للشخص الذي قدمها . وأنا اتساءل: لماذا أعتاد الناس إلى هذا الأسلوب من التصنيف؟ أقول لا أدري بالضبط لماذا يتم ذلك رهنًا بالهدايا، فقد يكون للتباهي والتفاخر الذي سيطر على أمور حياتنا مما جعل قيمة الهدية المادية تتغلب على قيمتها المعنوية .
وبعد هذه المقدمة والرد على السؤال المطروح، قد تسأل أيها القارىء الكريم: متى تصبح الهدية عبئًا وليس فرحة؟ هناك في رأيي ثلاث أمور : عندما يكون كل طرف يتوقع مقابل، وعندما تصبح عادة ليست نابعة من القلب، وعندما تتحول إلى التباهي والتفاخر . وهم الأكثرية . وهنا يقع الطرفان تحت ضغط نفسي يتحول إلى عبء بدل أن يكون فرحةً، فالنفس البشرية تنفر من ارتفاع الكلفة والجهد وتميل إلى السهولة واليسر في كل شيء، ولذلك فالإنسان يستمر في ممارسة الأشياء أكثر كلما كانت ممارستها أخف وأيسر على نفسه، ويهرب من الالتزام بالأشياء كلّما كانت ممارستها أثقل وأصعب على نفسه، باختصارٍ شديد نستطيع أن نقول: « إن الفخامة هي من عوائق الاستدامة » هذه القاعدة رغم بساطتها لا نلتفتُ إليها ولذلك فنحن لا ندرك حجم الأشياء الجميلة في حياتنا التي توقّفت وفقدناها بسبب حرصنا على الفخامة، زادت فخامة مجالسنا وأثاثها وموائدها ولكن انخفض عدد ضيوفنا لأننا صرنا نستصعب فتح هذه المجالس لأنها أصبحت ذات كلفة عالية في تشغيلها .
ما يتبادر إلى ذهني جانب أتمنى أن يكون خاطئًا .. فقد شاع من سمعة بعض أفراد مجتمعنا، أنهم يغالون في قيمة الهدايا رغم حاجتهم المادية، ويسخون بأكثر مما يتعين عليهم دفعه . تُقدم هدايا نفيسة يتبادلوها في المناسبات، رغبة في التباهي واستعراضًا للقدرات . لذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في حقوق الأخ على أخيه المؤمن: « أن يقبل تحفته، ويتحفه بما عنده، ولا يتكلف له بشيء » الكافي ج٥ ص ١٤٣ . فليس المطلوب في الهدية أن تعمد إلى كل ما في بيتك، وإلى كل ما تملك، وتقدمه هدايا لمن تحب، وإنما المطلوب كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: « ويتحفه بما عنده ، ولا يتكلف له بشيء » . ما أجمل التوازن والاعتدال في كل شيء، وما خرج عن حدِّ الاعتدال أصبح أساسًا لأزمات ومشاكل متشابكة، فلكل شيء حدّ، إذا تجاوزته، انطلقت عاصفة الأخطاء . يؤرقنا الإحراج حينما لا نستطيع رد الجميل ونشعر وقتها بالذل والانكسار .. نعم لعلَّ بعضنا يستصعب رد الجميل، فقد يعيقه ضيق ذات اليد . والمنطق يقضي التهرب من هكذا مناسبات بسبب التكاليف المادية التي ترهق صاحبها، فبعض الأسر ليست من الموسرين، أو تشكو الحاجة، كما أن المقارنة أو المبالغة في قيمة الهدية سببت قطع التواصل وسوء العلاقة بين الأقرباء والأصدقاء، لقد سئم الناس كثيرًا من حضور بعض المناسبات الإجتماعية، لما تحمل هذه المناسبات من استحقاقات لا تنال إلا بها . فليس كل الناس تستطيع أن تلبي الدعوات وتقدم فيها الهدايا، في بعض الأحيان الهدية تصبح عبئًا، لا بد أن نقدّر ظروف الناس المادية، حضور مناسبة معينة وتلبية الدعوة بدون هدية كافي، كما أن ليست كل المناسبات تقدم فيها هدايا، ونقرُّ بأننا غير راضين عمَّا نحن فيه من مجاملات ومبالغات، من هنا بدا واضحًا أن مقاربة ذلك الاستحقاق يتطلب التوازن حتى لا نشعر بالتقصير .
ووفقًا لما تقدم وما نستفيده من هذه الخاطرة نقول: لا شك أن الهدية لا تعطي أثرها الحقيقي إلا إذا كانت نابعةً من نية خالصة، وقلب صادق في كل شيء، يعني دون انتظار مقابل، المهم أن يسعى الطرف الآخر ما استطاع لرد الجميل.
اليوم وقد تبدلت أحوال الناس أصبح البعض يعاني من ضيق ذات اليد، فدخله بالكاد يكفي متطلبات عائلته، من أجل هذا أرى أن الأمر أصبح في أشد الحاجة إلى إعادة النظر في كثير من الأمور، وفي رأيي أن لا نتوسع في المجاملات، ولا نعطي إلا حسب الإمكانات المادية التي تسمح بذلك، حتى يستطيع مستقبل الهدية أن يرد على الهدية بالمثل دون مبالغة .
-- رحلوا .. ولكنهم في قلوبنا باقون، اللهم ارحم من رحلوا عن هذه الدنيا وتركوا في ذاكرتنا صورهم وأصواتهم وضحكاتهم، اللهُم ارحم من اشتاقت لهم الروح، اللهم آنسهم في قبرهم واجعلهم في مساكن جنتك آمنين مطمئنين، اللهم خفف علينا شوقنا لأحبتنا الراحلين، اللهم ارحمهم واغفر لهم وأعفو عنهم وأكرمهم بلذة النظر لوجهك الكريم وبلغهم شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وآله . والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد .
_________
-- تحتفل بعض الأسر في مجتمعنا بنجاح أبنها أو تخرجه أو عقد قرانه أو زواجه أو بقدوم مولادها أو برجوع ابنها من سفره أو خروج أحد أفراد الأسرة من المستشفى سالمًا معافى ..وفي مناسبات الأعياد والسكن الجديد أو مجرد عربون صداقة ومحبة ورد جميل، أو بعض المناسبات العائلية كعيد الأم أو الأب والعرسان وغيرها من المناسبات الإجتماعية، وهناك مناسبات في مجال العمل كالترقيات والنجاحات والزيارات العامة والخاصة والوداع أو نهاية الخدمة أو التقاعد .. وقد جرت العادة في مثل هذه المناسبات أن تقدم هدايا عينية أو مالية بهدف تقوية العلاقات الشخصية أو الروابط الاجتماعية .
محبكم/ منصور الصلبوخ .

تعليقات
إرسال تعليق