الوعي الذاتي رحلة محفوفة بالمخاطر


 الوعي الذاتي رحلة محفوفة بالمخاطر

 ما يعرفه الإنسان عن نفسه: 

كيف يتحول الوعي حول الذات إلى مصدر رعب وخوف 

في علم النفس، يُعتبر "الوعي الذاتي" (Self-awareness) من أعلى درجات الإدراك الإنساني، فهو القدرة على النظر إلى الذات كموضوع للتفكير والتحليل. لكن المفارقة التي يثيرها علماء النفس والاجتماع معًا هي أنّ ما يعرفه الإنسان عن نفسه لا يقوده دائمًا إلى الطمأنينة أو النضج، بل قد يورّطه في خوف عميق من ذاته، ومن انكشاف حقيقته أمام نفسه والآخرين.

1. الوعي الذاتي بين النور والظل

حين يواجه الإنسان أعماقه، يكتشف أن في داخله مناطق مظلمة: رغبات مكبوتة، أخطاء منسية، مواقف جبانة، أو نوايا لم يتجرأ على الاعتراف بها.

يقول كارل يونغ: "من لا يواجه ظله، يسقطه على العالم."

فمعرفة الإنسان لظله الداخلي تجعله في حالة صراع دائم بين ما يظهره للعالم وبين ما يخفيه عن نفسه. هذا الانقسام النفسي يولّد توترًا داخليًا، وقد يتحول إلى خوف من مواجهة الذات، لأن الحقيقة مؤلمة، والتعرية الداخلية تخلخل الشعور بالأمان النفسي.

2. الخوف كآلية دفاع

من منظور علم النفس التحليلي، الخوف من الذات هو آلية دفاعية تسعى لحماية "الأنا" من الانهيار. فحين يكتشف الفرد أنه ليس كما يظن – أو كما يريد أن يراه الآخرون – يبدأ العقل في ممارسة عملية "الإنكار" أو "الإسقاط" لتخفيف الصدمة.

لكن في المقابل، كل إنكار للذات يعني مزيدًا من الانفصال عنها، ومزيدًا من الاغتراب الداخلي.

وهنا يتحدث علماء الاجتماع عن ظاهرة "الاغتراب النفسي" (Psychological alienation)، حين يصبح الإنسان غريبًا عن ذاته، يعيش أدوارًا لا تشبهه، ويخاف من العودة إلى حقيقته الأصلية.

3. البعد الاجتماعي للمعرفة الذاتية

المجتمع بدوره يلعب دورًا حاسمًا في تضخيم هذا الخوف. فالهويات تُقاس وفق معايير الجماعة، لا وفق أصالة الفرد.

في البيئات التي تُشجع الامتثال لا التفرّد، يخشى الإنسان أن يعرف نفسه أكثر مما يجب، لأن المعرفة تعني التمرّد، والتمرّد يعني العزلة.

ولذلك نرى أن الكثير من الناس يعيشون حياة اجتماعية قائمة على "التمويه الوجودي"، أي التظاهر بالرضا والنجاح، بينما في الداخل يسكنهم قلق دائم من أن يُكشف المستور، أو أن تنهار الصورة التي صنعوها عن أنفسهم أمام الآخرين.

4. تبعات الخوف من الذات

اضطرابات القلق والهوية: تكرار الهروب من الذات يولّد شعورًا باللايقين حول "من أنا فعلًا"، مما يخلق دوامة من القلق والارتباك الوجودي.

الاحتراق النفسي: محاولة التوفيق بين الذات الحقيقية والذات المزيفة تستنزف الطاقة العاطفية والعقلية.

العزلة الشعورية: يصبح الإنسان محاطًا بالناس، لكنه عاجز عن التواصل الحقيقي معهم، لأنه لم يتصالح بعد مع ذاته.

العدوان والإسقاط: من يخاف ذاته غالبًا يهاجم الآخرين، أو يحمّلهم ما لا يريد الاعتراف به في نفسه.

5. نحو مصالحة مع الذات

تدعو مدارس العلاج النفسي الحديثة، كالعلاج الإنساني (Humanistic Therapy) والعلاج السلوكي المعرفي (CBT)، إلى مواجهة الذات بلطف لا بعنف.

القبول الذاتي لا يعني تبرير الأخطاء، بل فهمها ضمن سياق التجربة الإنسانية.

وكلما زاد وعي الإنسان بذاته دون خوف، ازداد تحرره من القناع الاجتماعي، وبدأ يعيش حياة أكثر صدقًا وتوازنًا.

ما يعرفه الإنسان عن نفسه قد يخيفه، لأن المعرفة تُسقط الأقنعة وتكشف هشاشته، لكنها أيضًا مفتاح نجاته.

إن مواجهة الذات هي رحلة الخائفين الشجعان، أولئك الذين يدركون أن السلام لا يأتي من الهروب، بل من احتضان الحقيقة مهما كانت مؤلمة.

فالخوف من الذات هو في جوهره دعوة إلى معرفةٍ أعمق، وإلى شجاعةٍ أكبر في أن نكون كما نحن، لا كما يريدنا الآخرون أن نكون.

د. سامي محمد سعيد المسلم

تعليقات