✦ براغ… زمن الضباب والحنين ✦
قراءة تأملية نقدية في رواية د. خالد عمشه
✦ نازك الخنيزي ✦
المملكة العربية السعودية
✦ حين يتذكّر المكان الإنسان
في براغ: زمن الضباب والحنين لا يكتب خالد عمشه رواية عن مدينة، بل عن روحٍ تتلمّس طريقها في العتمة.
براغ ليست جغرافيا باردة، بل كائنٌ يتنفّس الغياب، وتنبض في أزقّتها الأسئلة الكبرى: عن الحب، والهوية، والزمن، والمعنى الضائع في عالمٍ فقد بوصلته.
تتحرك الرواية في طبقاتٍ من الضوء والضباب، يتقاطع فيها الحنين مع الفقد، والحاضر مع أطياف الماضي، في رحلة طالبٍ عربيٍّ يطارد ذاته بين مدنٍ تتبدّل كالمرايا — من براغ إلى إسطنبول فبيروت — وكأن كل مدينة تعيد رسم وجهه على نحوٍ مختلف.
✦ الحنين… اللغة التي لا تُترجم
منذ الصفحات الأولى، يُدخلنا الكاتب في زمنٍ غائمٍ كالذاكرة.
الضباب هنا ليس طقسًا، بل حالة وعيٍ معلّقة بين الرؤية والغياب؛ يحجب المعنى ليمنحه عمقه.
أما الحنين، فليس رجوعًا إلى ماضٍ مفقود، بل توقٌ إلى ما لم يُعش بعد — ذلك الماضي المتخيَّل الذي يثقل القلب كأنه حدث فعلًا.
لغة الرواية تمزج بين الشعر والفكر، وتعيد إلى الكتابة معناها كرحلة تطهيرٍ للروح.
الحرف يصبح مرآة للذات، والمدينة معبدًا تتجلّى فيه التجربة الإنسانية في أشدّ لحظاتها صفاءً ووحشةً في آنٍ واحد.
✦ بين الشرق والغرب… رحلة الروح
تتحرك الرواية على خطٍّ متوترٍ بين الشرق والغرب: بين التصوّف والانبهار، بين الذاكرة والحلم.
الطالب العربي لا يعيش في براغ فحسب، بل في منفاه الداخلي.
المدينة ليست مضيفته بل مرآته — كلما حاول فهمها، انكشف له وجهه أكثر.
من خلال اللقاء بالآخر، سواء في امرأة تشيكية أو في مدينةٍ أجنبية، يبدأ الحوار الحقيقي مع الذات.
وهنا تكمن براعة خالد عمشه: إذ يجعل اللقاء الثقافي وسيلةً لاكتشاف الداخل، لا الخارج؛ فالرحلة التي تبدأ في الجغرافيا، تنتهي في الأعماق.
✦ الضباب… رمز العبور والوعي
يتجلّى الضباب في الرواية كرمزٍ وجوديٍّ للمسافة بين المعرفة والدهشة، بين الوضوح والعمى.
كلّما اقتربت الشخصيات من الحقيقة، تكاثف الضباب أكثر، وكأن الكاتب يذكّرنا بأن الوعي نفسه ليس نورًا خالصًا، بل تداخلٌ بين الظلال.
بهذا المعنى، تتحوّل الرواية من سردٍ للأحداث إلى تجربة تأملية في اللغة والزمن، تطرح السؤال الأبدي:
هل نعيش ما يحدث حقًا، أم نظلّ نحيا في ظلاله؟
✦ اللغة… جسر بين الحلم والواقع
لغة خالد عمشه شفّافة كالمطر، لكنها تخفي تحتها بئرًا من المعنى.
يحافظ على توازنٍ دقيقٍ بين النثر الشعري واللغة السردية، فلا يُغرقه التزويق ولا تبهته البساطة.
المدن تتكلّم، والذكريات تنبض، والجمل تمشي بإيقاعٍ خفيٍّ يجعل القارئ يسير كما لو أنه يُصغي إلى موسيقى تسافر به من ضباب البداية إلى بصيرة الختام.
✦ خاتمة: حين يُصبح الحنين وطنًا
في النهاية، لا يعود البطل إلى وطنه كما خرج، لأن الوطن تحوّل إلى وعيٍ يشبه الصلاة.
براغ ليست محطة عبور، بل مرآة للكينونة، مدينة تكتب الإنسان أكثر مما يكتبها، وتذكّره بأن الحنين ليس ضعفًا، بل دليل على أن فينا ما لم يمت بعد.
بهذه الرهافة والعمق، يقدّم د. خالد عمشه رواية لا تُقرأ فحسب، بل تُصغى إليها كما يُصغى إلى أنين الذاكرة حين تمرّ في زمن الضباب — عملٌ يضيء القلب بقدر ما يوقظ السؤال.
أكتوبر 2025

تعليقات
إرسال تعليق