من الفكرة الكامنة إلى المعرفة الحية

 


لا أحد بمنأى عن تكوّن أفكار مختلفة في عقله؛ إذ إنها تتبلور نتيجة العيش المشترك بين الناس والبيئة الثقافية التي تسيطر على المجتمع. لذلك لا يوجد شخص يخلو عقله من الأفكار؛ فهي كامنة في داخله، تنضج كلما أضيفت إليها أفكارٌ مشابهة تدعمها، وقد تتغير من فترة إلى أخرى، لأن طبيعة الإنسان متغيرة في أفكاره ومعيشته.

وعلى العكس من ذلـك، يبقى الحيوان منذ خلقه إلى يومنا هذا على حال واحد، حتى وإن كان منظمًا في معيشته كما هو الحال في خلية النحل التي تسير وفق نظام ثابت لم يتبدل، بخلاف الإنسان المتطور والمتغير. ومن هنا، لا يمكن القول إن إنسانًا عاش قبل أربعمائة سنة هو ذاته الإنسان المعاصر؛ فكل تلك التغيرات هي نتيجة الاشتغال الفكري المتجدد.

الأفكار كجواهر مكنوزة

الأفكار تتعدد في عقول الناس وتختلف من شخص إلى آخر، ولا يستطيع أحد أن يدّعي بأن فكرته تتطابق تمامًا مع فكرة شخص آخر. كما أن التفكير يظل أمرًا مكنوزًا لا يطلع عليه أحد سوى صاحبه، بخلاف كثير من الأشياء الأخرى. ويمكن القول إن الأفكار بمثابة جواهر ثمينة مخزونة في صناديق الـعقول؛ يصعب علـى الآخرين رؤيتها أو الـتعرف عليها ما دامت حبيسة تلك الخزائن. وما أن تخرج إلى الـعلـن حتى تصبح في متناول الجميع، فتُضاف إليها تحسينات قد تزيدها وضوحًا وتألقًا.

أكبر مثال علـى ذلـك ما فعله العالم إسحاق نيوتن؛ فبينما كانت فكرة الجاذبية مجرد تساؤل في عقلـه بعد رؤيته تفاحة تسقط من الـشجرة، لـم تبقَ هـذه الـفكرة حبيسةً في داخلـه. بل قام بتحليلها وتعميقها عبر الحسابات والملاحظات، ثم أخرجها للعالم في قوانين رياضية دقيقة. وبفضل هذا الإخراج تحولت فكرته إلى معرفة راسخة لقرون متعاقبة.

من الفكرة إلى المعرفة

وتبقى الأفكار مجرد أفكار ما دامت مستقرة في العقول؛ فلا يمكن أن نعدّها معارف لأنها خامدة لا يُستفاد منها. أما إذا برزت وتفاعلت مع غيرها من الأفكار، فإنها تتحول حينها إلى معارف حيّة، قادرة على الإسهام في البناء والتطور.

لـذلـك، علـى أي إنسان لـديه أفكار ناضجة ويرى أنها مناسبة، أن يُخرجها من عقله إلى الناس حتى تتلاقح مع أفكار أخرى، وينتج عنها أفكار أكثر اتساعًا في محتواها، ولكي يختبرها: هل هي صحيحة أم غير ذلك؟ أما بقاؤها مخزنة في العقل فسوف تموت بموت صاحبها.

المصدر/ جريدة اليوم

تعليقات