#خاطرة_الجمعة « .. فمرحبًا بك أيها الموت »
هذه شهادة بمرتبة وصية .. شهادة رائعة عظيمة، لا للغتها، ولا الفكر العبقري وراءها، ولا لصورها المبتكرة، ولكن لأنها تصور بروعة وأمانة ودقة موقفًا حقيقيًا لإنسان حقيقي يوشك أن يدخل أبواب أعنف التجارب البشرية .. نستوحي منها الدروس النافعة، تجربة تمر بالناس أجمعين !!
لقد أرغمته مر السنين على الانتباه إلى هواجس التقدم في السن والمصير الذي قد وصل إليه من الضعف والوهن، هي أيام صعبة تواجه المرء بعد أن يتقدم به العمر .. فتشغله الشيخوخة وعجز الجوارح وعذاب الوحدة .. لقد عاش في هذه الدنيا في صراع طويل وركض دائم وما جلبته من إرهاق وقلق وأمراض .. عاش أكثر أيامه وهو يتكالب على الحياة، أضاع وقته في الطريقة التي يستطيع بها أن يجمع ما يجمع ويجد ما يريد .. ومضى وكل همه وتفكيره أن يجمع المال من اجل أن يوفر العيش الرغيد والحياة الكريمة إلى أبنائه، وأن يكدس في البنوك أموالًا طائلة تنفعهم .. هم وحدهم دون سائر الأناس .. لقد أمضى حياته على هذه الوتيرة .. جمع المال ليحقق هدفه الوحيد الذي عمل من أجله في هذه الحياة، لماذا؟ لأن الأبناء .. أبنائه هم صلبه - ولا شك أن الإنفاق على العيال من الأمور الأخروية؛ ما لم يكن المال من ..! لكن هناك أشياء أخرى غير هذه تحز في نفسه !! لقد ظلم وكذب وخدع وخدع وغشش وغشش .. وهذا غير جائز، ماذا يفيد الإعتراف والاستيقاط ومحاسبة النفس وفتح دفتر ظلامات الناس، لا سيما في وقت شارف صاحبنا على حافة الوصول للمحطة الأخيرة لقطار العمر، وبعد أن أدرك أن الدنيا أضيق من خرم إبرة، فالعمر محدود والحياة فانية، لقد اخطأ .. أخطأ صاحبنا في حق الآخرين بترهات أكبر من هذه وأعم .. اشياء لا يستطيع أن يقولها، ولكنه ذاهب ذاهب تاركًا وراءه ثروة سعى لجمعها بطرق غير مشروعة، والنتيجة الحتمية حينئذ هي الخسارة والندم على ما فات، لقد أوصل نفسه إلى مرحلة لا تعطيه خيرًا أبدًا، ليجد نفسه يقول: « فواحسرتاه على أيام عمري التي ضاعت سدى دون أن أستغلها فيما ينفع بها نفسي، فهي أيام لا سبيل إلى عودتها » مقولة تحمل سمة التعاسة والخسارة والشقاء والدمار لصاحبها بمعناها العبادي، روي عن سيد الموحدين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه: « لا ترخّص لنفسك في مطاوعة الهوى وإيثار لذات الدنيا، فيفسد دينك ولا يصلح، وتخسر نفسك ولا تربح » غرر الحكم،١٠٤٠٠ . والآن أعيش لحظة مفصلية هي الرمق الاخير المتبقي للحياة .. النهاية المحتومة، فالموت لن يتوقف ولن يمهلني لأتدبر أمري، ولا ينفع بعد رحيلي تمني رجوعها، نعم .. لا ينفع صابون الندم، وعطر التوبة، والتوجه إلى بدل المال في القضايا الدينية والاجتماعية .. بدافع التقرب إلى الله سبحانه وتعالى من أموال وثروات مصادرها غير مشروعة .
في الغذ ستودعون هذا الجسد البالي حفرة صغيرة هي كل رأس ماله من هذه الحياة . لقد رسمت لنا هذه الشهادة صورة الرجل الذي أصابه أقسى بلاء، وآيس من الرجوع والإياب، في لحظة غفلة وضلال، فقال لسان حاله: إخواني ومن سمع حديثي .. لا .. لست أريدكم مثلي .. وإنما أريد منكم أن تبحثوا في حقيقة هذه الحياة، وأن تفكروا في الموت .. الموت الذي يحصد الألوف من الناس دون أن يدري الباقون ما تفعل لأنهم عنك لاهون .. بالله عليكم قولوا لي ما هي اللذّة في هذه الحياة .. وما هو شعوركم يوم تفارقونها وحقوق الناس لم تؤدوها ؟ شيء فظيع !! لقد استمتعت بالحياة دون أن يكون لي حق فيها، لأنني استمتعت فيها على حساب إخواني وأصحابي وأهلي وجيراني .. ولكن الآن ماذا بقي لي من الحياة ؟ لا شيء .. لا شيء .. أشعر بأن رحلة الحياة بدأت تقترب من نهايتها .. واليوم وحتى في هذه اللحظة فإني استميحكم العذر وأرجو منكم أن لا تطيلوا عذابي فتسامحوني .. والآن آن لي أن أغمض عينيّ لألتقي بربي فهو بي أرحم وألطف .. فمرحبًا بك أيها الموت !!
-- اللهم ارحم من رحلوا عن هذه الدنيا وتركوا في ذاكرتنا صورهم وأصواتهم وضحكاتهم . اللهُم ارحم من اشتاقت لهم الروح . اللهم آنسهم في قبرهم واجعلهم في مساكن جنتك آمنين مطمئنين . اللهم خفف علينا شوقنا لأحبتنا الراحلين . اللهم ارحمهم واغفر لهم وأعفو عنهم وأكرمهم بلذة النظر لوجهك الكريم وبلغهم شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وآله .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد .
_________
-- من وصايا الإمام الحسن بن علي عليه السلام: قال له جناده بن أبي أمية في مرضه الذي توفي فيه: « عظني يا ابن رسول الله ، قال نعم .. أستعد لسفرك وحصِّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل هَمِّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه . واعلم: أن الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب .. » الميلاني: قادتنا كيف نعرفهم: ج٥ ، ص ٣٢٥ .
محبكم/ منصور الصلبوخ .

تعليقات
إرسال تعليق