سيرة وتاريخ وابداع المرحوم الدكتور السيد باقر العوامي

 


يُعد البروفيسور الدكتور السيد باقر بن السيد حمزة العوامي قامة علمية، أكاديمية، بحثية، طبية، ووطنية وإنسانية بارزة. امتد عطاؤه لأكثر من نصف قرن، اسس 
عيادته الخاصة لطب الأطفال في القطيف

 النشأة والتعليم

نشأ البروفيسور العوامي في عائلة تعمل بالتجارة، حيث كان والده وجده تاجرين. أراد والده أن يسير على خطاه في التجارة، لكن شغف البروفيسور بالطب كان أقوى منذ طفولته. كان هدفه واضحاً ومحدداً وهو أن يصبح طبيباً لخدمة المجتمع والوطن.

تفوقه الدراسي المبكر:

   في الكُتّاب (المعلّم): تعلم على يد خاله الشيخ عبد الرسول الجواد، حيث درس النحو والصرف مثل الآجرومية، مما منحه لغة عربية قوية، كما أتقن تجويد القرآن وحفظه في سن مبكرة.

   في المدرسة الابتدائية: التحق بمدرسة زين العابدين في القطيف وهو متمكن من أساسيات التعليم، مما دفع أساتذته، مثل الأستاذ أبو المعاطي، إلى نقله سريعاً من الصف الثالث إلى الرابع بعد أسبوع واحد، ثم إلى الخامس بعد أسبوعين فقط، تقديراً لمستواه المتقدم.

   في المدرسة الليلية: التحق بالمدارس الليلية لمحو الأمية وهو في سن الثامنة أو التاسعة لزيادة تحصيله العلمي.

   في المرحلة الثانوية: كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في الدمام آنذاك، وكان يذهب إليها يومياً في حافلة "أبو هندل" الصفراء، متحملاً صعوبات الطرق غير المعبدة. كان طالباً مميزاً ومتفوقاً، حيث كان الأول على دفعته بفارق 100 درجة عن الثاني.

دعم العائلة:

   جدته (أم أمه): كان لها الدور الأكبر في تشجيعه على دخول المدرسة وإقناع والده بذلك.

   والده: على الرغم من رغبته في أن يصبح ابنه تاجراً، إلا أنه دعمه بقوة لتحقيق حلمه. في لفتة نبيلة، قام بكتابة العمارة الوحيدة التي يملكها باسم ابنه كضمان له ليبيعها ويدرس الطب على حسابه الخاص في حال لم يتم قبوله في البعثة.

   والدته: علمها البروفيسور قراءة القرآن، حتى أصبحت هي نفسها مُعلمة للقرآن لكثير من الناس.

 الابتعاث والمسيرة الأكاديمية في ألمانيا

في عام 1965، ابتعثته الدولة لدراسة الطب في ألمانيا.

   تعلم اللغة والسنة التحضيرية: أمضى ستة أشهر في سويسرا لتعلم اللغة الألمانية في معهد جوته. واجه تحدياً كبيراً حيث اشترط الألمان عليه إعادة السنة التوجيهية (الثانوية) والمنافسة مع الطلاب الألمان للحصول على مقعد في كلية الطب، وقد نجح في ذلك بتفوق.

   الدراسة الجامعية: التحق بجامعة "إرلانجن" (Erlangen)، وهي مدينة جامعية صغيرة ساعدته على التركيز. أنهى مرحلة ما قبل السريرية (Pre-clinic) في ثلاث سنوات، وهو الوقت المحدد لها، بينما كان الكثيرون يستغرقون ست سنوات.

   الزواج: بعد إنهاء هذه المرحلة، عاد إلى المملكة وتزوج من السيدة ماهر الخنيزي، ابنة الشاعر عبد الواحد الخنيزي، التي كانت خير معين وداعم له في مسيرته، وشجعته على استكمال دراساته العليا وتخصصاته الدقيقة.

   الدكتوراه والعمل الجامعي: حصل على درجة الدكتوراه (PhD) في الطب عام 1978. لم يكتفِ بذلك، بل دخل السلك الأكاديمي وعمل معيداً ثم محاضراً في جامعة "مونستر"، إحدى أكبر الجامعات الألمانية، حيث كان يحاضر باللغة الألمانية. خلال هذه الفترة، ألف كتيباً باللغة الألمانية عن "تشوهات جدار البطن عند الأطفال" موجهاً للأطباء الألمان.

 العودة إلى المملكة والمسيرة المهنية

قرر العودة إلى المملكة بعد لقاء أبوي مع الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) أثناء زيارته لألمانيا، حيث شجعه الملك على العودة لخدمة وطنه قائلاً: "ترى في طفرة ببلدكم... زملائكم اللي في البلد عندهم علم وعندهم فلوس، أنتم ما عندكم غير علم، روحوا أخذوا الفلوس".

   جامعة الملك فيصل: التحق بجامعة الملك فيصل كأستاذ جامعي واستشاري، وساهم في مرحلة تأسيس المستشفى الجامعي، حيث كان يشارك في تجهيز المستشفى واستقطاب الكوادر الطبية من ممرضات وغيرهن من عدة دول، حتى أُطلق عليه لقب "ابن بطوطة" لكثرة رحلاته.

   الأبحاث العلمية: ركز أبحاثه على أمراض الدم الوراثية، خاصةً فقر الدم المنجلي (السكلر)، الذي كان منتشراً في المنطقة الشرقية.

       أجرى دراسة ضخمة بتمويل من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، شملت حوالي 30 ألف عينة من الحبل السري لحديثي الولادة على مدى 6 سنوات.

       كشفت أبحاثه أن 95% من الناس في ذلك الوقت لم يكونوا يعرفون شيئاً عن المرض، وأن نسبة حاملي المرض في القطيف وصلت إلى 25%.

       كان أول من نادى بضرورة إجراء فحص ما قبل الزواج، ورغم معارضة الفكرة في البداية، تم إقرارها لاحقاً مع ترك الخيار للزوجين، مما ساهم في تقليل انتشار المرض بشكل كبير.

       نشرت أبحاثه في مجلات علمية محكمة وألقى محاضرات عنها في مؤتمرات عالمية.

       اكتشف وفريقه هيموجلوبين جديد لم يذكر سابقاً في العالم، وسُمي "هيموجلوبين دمام" (Hemoglobin Dammam) نسبة إلى جامعة الملك فيصل.

 العيادة الخاصة وخدمة المجتمع

بعد تقاعده عام 2000، افتتح عيادته الخاصة لطب الأطفال في القطيف، والتي كانت أول عيادة متخصصة في طب الأطفال في المنطقة. أصر على افتتاحها في مسقط رأسه لخدمة أهله ومجتمعه، رغم أن زملاءه نصحوه بافتتاحها في الخبر أو الدمام لتحقيق دخل مادي أكبر. يرى أن العلم يجب أن ينفع الناس، وأن الطبيب يجب أن يتحلى بالإنسانية قبل كل شيء.

 إسهاماته في التثقيف الصحي

لم يقتصر عطاء البروفيسور على الجانب الأكاديمي والعلاجي، بل امتد ليشمل التثقيف الصحي للمجتمع:

   قصة "سالم والأنيميا المنجلية": ألف قصة مبسطة للأطفال لتعريفهم بالمرض، وقد لاقت استحساناً كبيراً حتى أن جامعة البصرة في العراق طلبت إذنه لإعادة طباعتها وتوزيعها.

   كتاب "أوراق طبية": جمع فيه مقالاته التي كان ينشرها أسبوعياً في جريدة اليوم، وتناول مواضيع متنوعة مثل أخلاقيات مهنة الطب، وتسمم الأطفال، وأمراض الحساسية، والخصية المعلقة وعلاقتها بالعقم.

يؤمن البروفيسور العوامي بأن "خير الناس أنفعهم للناس"، وأن على الإنسان الذي يملك علماً أن ينفع به الجميع. وهو مثال حي على التفاني والإخلاص في خدمة العلم والمجتمع.


تعليقات