#خاطرة_الجمعة « النعمة والنقمة »


 #خاطرة_الجمعة « النعمة والنقمة »

ولدتُ في بيت كبير، هو عبارة عن مجمع تسكن فيه عائلة تتكون من الجد والجدة، وأولادهما وأحفادهما، وكأن البيت قرية قائمة بحد ذاتها .. تعي الذاكرة الكثير مما كان يطبع المجتمع القطيفي قبل خمسين عامًا، في ذلك الزمان كانت الحياة هادئة مطمئنة بسيطة هيِّنة تنضح بالرأفة والرحمة .. غنية بالقيم والأخلاق، ولم أزل أعيش ذكرياتها حتى اليوم !! مضت السنون وتغيرت الأحوال وأصبحنا أمام انماط جديدة وفلسفة حديثة جلبت علينا من الشقاء قدر ما جلبت لنا ما ظنناه من فرط سذاجتنا راحة وسعادة. إنني لا أحن فقط إلى سابق الأيام التي راحت بل أبكي عليها .. أبكي الآن من ضغط الحياة وقسوة الأيام التي أصبحت تعتصر قلوبنا من ركضها الدائم، وما جلبته من ضغوط رهيبة على اعصابنا وما رافقها من إرهاق وقلق وأمراض ومتطلبات لم نكن نعرفها أو نهتم بها !! نعم، اليوم انقلبت موازين الحياة، نجد أن نمط الحياة الهادىء الذي عاشه الآباء والأجداد حدث فيه تغيرات كبيرة جدًا اختلفت اختلافًا جذريًا عن تلك التي ألفناها حتى سنوات معدودة خلت، جملة تحولات طرأت بإيجابياتها وسلبياتها على الحياة التي عشناها في أيام آبائنا واجدادنا. كانت العلاقة التي تسود البيت هي علاقة مقدسة، تفترش بساط الحب والإطمئنان .. احترام وصداقة وتفاهم بين الكبار وهيبة أسرية لضبط الصغار .. من هنا لا بد من التوقف بإيجاز أمام المشهد الحياتي، يوم كانت الحياةُ حياةً، بتفاصيل أقل اكتظاظًا، أكثر استرخًاءً، أوسع مدى، أرحب أملًا .

كم من مرة وجدتني أسأل نفسي هل سنظل نتحسّر على أيام زمان؟ نعم .. ففي أيام زمان كان الناس على درجة من البساطة والطيبة أعلى بكثير مما هي عليه أناس هذه الأيام، حتى الحياة نفسها كانت أقل تعقيدًا وأكثر سلاسة من حياتنا الحاضرة، وكانت تربية الآباء لأولادهم أفعل وأكثر ملاءمة من التربية الحديثة، ومع ما لدينا من مدارس متطورة وكل سبل الاتصالات والمعلومات والتقنيات الحديثة التي يمكن أن تفيد أطفالنا في مجال التربية، إلا أن هناك قلقًا يلازم الأهل في كثير من المواضع المتعلقة بأولادهم مثل كيفية حمايتهم من المخاطر التي قد تصادفهم في هذا الزمن .. نعم نحن نعيش في زمن عولمي صعب، له تحدياته وفروضه ونوافله، تفرض علينا المزيد من الأعباء والتحديات، وأولى الوسائل في تقديري لمواجهة التحديات يعود إلى سلوك الآباء والأمهات .. نعم على الآباء والأمهات أن يتعلموا كيف يمنحوا الحب لأطفالهم، وكيف يعطوهم الوقت، ويمسكوا بأيديهم ليصاحبوهم إلى أي مكان يذهبون إليه، عليهم أيضًا أن يتعلموا كيف يحاورون أطفالهم وكيف يصغون إليهم بانتباه، بآذانٍ منصته، وقلوب مفتوحة لكل مشكلاتهم.

وقد وردت في الشريعة الغراء أحاديث كثيرة تركز على أهمية هذه المسؤولية الملقاة على عاتق الآباء المكلفين بتربيتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قوله:« كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته».

قبلًا، الأسرة المحيطة بالطفل من جديه وأعمامه وأخواله وكذلك جيرانه ومعلميه هم مساعدو الوالدين في عملية التربية، كي يكبر الطفل في مجتمع محب وبنَّاء، ويغدو شخصًا مبدعًا في عمله، صادقًا في تعاملاته. وهكذا، بدلًا من أن نرهق أنفسنا وجيوبنا في توفير مستلزمات أولادنا من ألعاب وأجهزة ذكية وما هنالك من أمور، علينا أن نقضي قسطًا كبيرًا من وقتنا من أجل تربيتهم التربية الإسلامية .

انطلاقًا من بيوتنا وحالتها الحاضرة، ودورها اجتماعيًا وتربويًا ونفسيًا في حياة الأسرة نتلمسه اليوم إذ يتقلص حضوره في حياتنا وتأثيره تبعًا لذلك.

لئن جاز لنا أن نتحدث عن دور الأسرة في تربية أبنائهم ، وخصوصًا الوالدين بوصفهما منبع الحب والأمان والعواطف والأحلام، والمبنية على الأصول العقائدية والأخلاقية، وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الوالدان موجودين لأطفالهما، قادرين على أن يمنحوهم من الوقت الكثير والجو الهاديء الذي يجعلهم مستقرين روحيًا ونفسيًا وجسديًا.

-- كانت المائدة الصورة الجميلة وعنوان المرحلة الماضية التي عشناها، وحولها يجتمع أفراد الأسرة على صحن واحد، وفي وقت واحد، يتناول كل فرد نصيبه منه بقدر حاجته، وربما بقدر توفر الطعام نفسه، تجسيدًا للعلاقات الأسرية، ما أروعها من صورة، وما أجمله من سلوك، وكم يتمنى كل فرد أن يعود لذلك الزمن !! ما نراه اليوم نقلة نوعية جديدة في مسار التحضر، فقد تغير الحال كثيرًا، الفترة التي يقضيها أفراد الأسرة مع بعضهم وخاصة الأب والأم تقلصت، فما أن يعود الوالدان من العمل متعبان، وما إلا ساعة أو بعض ساعة حتى تراهما يغطان في نوم عميق .. ورأيتني اتسآءل متى يشعر الطفل بدفء والديه؟ مشاغل الحياة لا تنتهي ومشاكل العيش لا يمكن أن تحل دفعة واحدة، ومن ذلك ما حدث للمرأة من تحول في النمط الاجتماعي من الهدوء الرتيب إلى الإيقاع الراكض نحو ميادين العمل، وهذا التغير الاجتماعي صحبه تغير في سلوك الآباء والأمهات، نرى الطفل يرتمي في حضن الخادمة أو المربية التي تأتي من عالم مجهول، بدلًا من حضن الأم المليء بالعواطف والحنان، لقد فقد الطفل ذلك الحضن الدافىء الذي يعتبر روض من رياض الجنة. وبعد فيا أيها المتمدينون: أية حياة أو عمل أو معيشة هذه التي تتحدثون عنها؟ إنه عصر ممزق، يعيش الطفل في صراعات نفسية يصعب علاجها، فعاطفة الأمومة التي يحتاجها الطفل تحولت إلى معنى مادي لا قيمة له ولا رجاء. أفراد الأسرة يقيمون في بيت واحد ويبيتون تحت سقف واحد، إلا أنهم في الواقع هم منفصلون أو يفتقدون طابع العلاقة الأسرية التي اعتاد عليها أطفال جيل الآباء. أن شعور الوالدين بالتقصير تجاه أطفالهم، يعتبر الخطوة الأولى في علاج المشكلة، فهم يودون الاستمتاع بالحياة، وتوفير الوقت اللازم لأحبتهم الصغار، لكن ضغوطات الحياة تقف دون تحقيق ذلك. في واقع الأمر فقدَ الطفل نصيبه من حنان الأمومة وعطف الأب، فوَقتَ الأسرة اليوم وقت عمل ودراسة، فالأب والأم يعملان طوال النهار، من اللحظة التي يفتح فيها عيني الوالدين صباحًا وحتى استسلامهما للنوم مساءً، والأطفال في المدرسة من الحضانة حتى الجامعة، فجميع أفراد الأسرة مشغولون وملتزمون بالعمل والدراسة بشكل يجعل يوم الأسرة مليئًا بالمهام، هي من أساسيات شخصية العصر 

الحديث، فهل هي نعمةً لنا أو نقمةً عليّنا ؟! هناك من الأسر التي استطاعت أن تتكيف مع العمل والكفاح في طلب الرزق وتوفير الوقت اللازم لأحبتها الصغار للمتعة والنشاطات العائلية، وعلى أية حال فإن توثيق العلاقة الأسرية بين الأفراد وإقامة روابط طيبة محببة بينهم تحتاج لتخصيص وقت لها، فجلوس الوالدان مع أطفالهم والحديث معهم والسماع لمشاكلهم، هي جزء لا يتجزأ من تكوين  شخصيتهم واندماجهم الاجتماعي، كل ذلك يشحن العلاقة بالمودة ويغرس في نفوسهم القيم، ويشد أفراد الأسرة إلى بعضهم، فالإمام الصادق عليه السلام يقول: « تعليم الطفل منذ الصغر كالنقش على الحجر » . ولعل في وجبة الغذاء الرئيسة يشارك فيها الجميع فرصة طيبة للحديث الطيب الذي يزيد في متعة تناول الطعام، لا أن يجلس أفراد العائلة وجومًا كأنهم في مأتم أو على طعام عزاء .

ومن الأخير لن نصل إلى شيء غير ما وصلنا إليه من ساعات وأيام مليئة بالمهام والهموم من اللحظة التي يفتح فيها المرء عينيه صباحًا وحتى استسلامه للنوم مساءً، هذا هو النمط العصري في حياتنا اليومية .. يكاد لا يسمح للإنسان بالفسحة الصافية والتوازن المطلوب والجلسات مع الذات غير المحكومة بالأهداف المعيشية. إن ما نفعله هو ضربًا من ضروب العبث والاستخفاف بالتربية والقيم النبيلة، هذا هو نقطة التحول في حياتنا. نأسف على تردي أحوالنا وانكسار إرادتنا وطموحنا. ليت الزمن يعود إلى الوراء .. سقطنا في هوة سحيقة فقدنا معها قدرتنا على التوازن والتصرف بحكمة مع واقعنا وقيمتنا الإنسانية . أيقال بعد هذا: هل تحضر العالم بعد هذه المسيرة الطويلة من التطور والتقدم وما أحدثه العلم من اتصالات ومعلومات وتقنيات، وبعد هذه التجارب والأبحاث التي لازمت تلك المسيرة ؟! علينا أن ندقق بين الجديد الذي لا يتعارض مع قيمنا ومبادئنا وبين الرديء الذي يستحق مقتنا أو ازدراءنا !!

--  نبكي ونذرف الدمع السخين على أهلنا وأحبتنا وأبناء مجتمعنا كانوا بيننا وأمام أعيننا وفجأة وفي غمضة عين غادرونا، اللهم أرحمهم وأجعل قبورهم خير مسكن تغفو به أعينهم حتى تقوم الساعة وارحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى خاتم الرسل وعلى آل بيته الطيبين الأطهار .

 طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.

_________

كم تكون فرحة الطفل كبيرة عندما يرى من حوله والديه مهتمين به. ما أشد حاجة أطفالنا إلى حنان الأمومة وعطف الأبوة. الخير كل الخير أن يكون كل من الأم والأب وليًا صالحًا لأبنائه وبناته، فيعينهم بعد الله على تجاوز تحديات العصر.

محبكم/ منصور الصلبوخ.

تعليقات