ما المُميزات أو المكاسب المادية والمعنوية التي تُقدمها الكِتابة لرعايا عالِمها الواسع؟.. سؤالٌ سمعته من بعض حاملي الأقلام الناشئة المُقبلة على طرق الأبواب المُغلقة على أسرار هذا العالم. بعضهم يملكون صورة ذِهنية غير واقعية عن حقيقة ما يحدث وراء تلك الأبواب، وبعضهم لا يملكون أدنى صورة، لكن الجميع يتوقون لتلبية نداء هذا الإغراء الذي يبدو فاتِنًا من بعيد.
من وراء أسوار الضفة الأخرى، حيث يوجد أولئك الذين استطاعوا العبور والاختلاط بشعب المملكة الأدبية والكتابة الإبداعية، اخترتُ أن أكتب لك – يا عزيزي الكاتب الصاعِد- ردًا على تساؤلك هذا، رغم عِلمي أنك قد لا تتمكن من تصديق بعضه أو الاقتناع به حتى تركب زورق المُغامرة وتجتاز تلك الأسوار بنفسك، وما دُمت ترغب فعليك أن تركب، كي تصل إلى المرحلة التي تستطيع فيها الاختيار واتخاذ قرار من مُنطلق خبرةٍ وتجربة، لا من مُنطلق الانسياق وراء التخيُّل أو سماع ما ينقله الآخرون من معلومات بعضها ناقص، وبعضها بعيدٌ عن الحقيقة.
"الكتابة الإبداعية" مُرتبطة بالاتصال مع جماهير المُتلقين الذين يُطلق عليهم في علم الاتصال "مُستقبلي الرسالة" باعتبارك أنت "المُرسٍل"، أما "الرسالة" فهي المادة المكتوبة المنشورة للقرَّاء، وأنتَ – على الأرجح- تتوقع "نتيجة" لخوضك تلك المُغامرة، وقد تكون النتيجة التي تتوقعها "مادية" كالحصول على نقود، أو"معنوية" كالشهرة، أو "أدبية" كالتقدير والاحترام، أو "مجتمعية" كالتمكن من الاختلاط بالأدباء والمفكرين والمثقفين ذوي المكانة العالية، والخبر الجيد هنا أنك قد تحصل عليها كلها، أو بعضها، أو شيء من كل واحدة، لكن الخبر السيء أنك قد تُصدم بعدم تحقيقك أي نتيجة من تلك النتائج رغم كل ما بذلته من جُهد..
الحصول على مكاسب مادية عبر الكتابة لا يتحقق في عالمنا العربي إلا نادرًا هذه الأيام، فإذا ألفتَ كتابًا ستكتشف أنك لن تتمكن من تحقيق هامش ربحٍ منطقي إلا إذا سعيت أنت للتسويق له وبيعه بنفسك، إما إن اعتمدت على دور النشر فلن تحصل على شيء إلا بالإعجاز الإلهي، وإذا كان صاحب النشر برًا ورِعًا تقيًا ممن يؤمنون بالجنّة والجحيم.. وأكثر ما قد تحصل عليه هو خمسٍ وعشرين بالمائة من سعر الكتاب، فإن كان سعر الكتاب دينارًا واحدًا – على سبيل المثال- يكون أقصى ما تجنيه مائتين وخمسين فلسًا فقط مقابل النسخة الواحدة، وهناك دور نشر لا تعطي إلا عشرة بالمائة، أي أنك لن تحصل إلا على مائة فلس مقابل كل دينار. البعض يتصور أن في رفع سعر كتابه إلى خمسة دنانير أو سبعة قد يُجدي نفعًا، لكنه خيارٌ يُنفر معظم هواة القراءة من ذوي الدخل المحدود عن شرائه، ويدفعهم لخيار استعارته مجانًا من صديق آخر، وسأخبرك بحقيقة قد تبدو غريبة أو صادمة؛ وهي أن معظم الراغبين في اقتناء الكتب بشراهة من هواة القراءة هم من الطبقة غير المرفهة ماديًا، لا يعني هذا أن الأثرياء لا يقرؤون الكُتُب الأدبية؛ لكنها لا تُصنف بين هواياتهم الرئيسية. أما الحصول على المال مقابل كتابة المقالات ونشرها على صفحات الصحف فهو أمرٌ يكاد يكون أقرب إلى الأحلام المُستحيلة ما لم تكُن من الرواد القُدماء القديرين ذوي الصيت الرفيع في عالم الكتابة والصحافة، أو يتوسط لك شخصٌ ممن لا ترد لهم كلمة في البلد، وعدا عن هاتين الفرصتين ستجد نفسك مُضطرًا للكتابة مجانًا معظم الوقت، أو مقابل مُكافأة هزيلة محدودة بين حينٍ وآخر، وقد تُعرّض اسمك لخطر الانتهاء على "اللائحة السوداء" لبعض الصحف بمجرد السؤال عن إمكانية الحصول على مكافأة مالية، فيتجاهلون طلبك بعدها إلى الأبد حتى إن أعربت عن استعدادك للنشر مقابل لا شيء.
ماذا عن الكتابة للسينما أو الدراما التلفزيونية؟ هنا أيضًا وسطٌ أكثر تعقيدًا وتقوقعًا على أفراده وانغلاقًا على دائرته، لكنك إن امتلكت ما يكفي من الصبر والنشاط والذكاء والتحمل إلى درجة تقديم تضحيات مجنونة من وقتك وجهدك ستتمكن من حشر نفسك في عنق الزجاجة ذاك حشرًا حتى تدخل، عندها انتبه؛ لأن أصغر خطأ في البداية خلال التعامل مع الموجودين سيُلقي بك إلى خارج الدائرة، ولن تتمكن من العودة ما دُمت حيًا.
قد تحصل على قدرٍ كافٍ من الشهرة إذا بذلت ما يكفي من الجهد للإعلان عن وجودك، وقد تحظى بما يكفي من التقدير والاحترام من بعض شرائح المُجتمع لكن ليس الجميع بكل أسف، لكن هناك كنزٌ عظيم لن تناله إلا إذا كُنتَ عاشقًا مولعًا بالكتابة، وهو شعورك بالحُرية على الورق، تلك الحُرية التي يمنع عامة الناس صوتك وأفعالك عن ممارستها، فيهبك إياها ذاك السحر الكامن في قلمك.
تعليقات
إرسال تعليق