
معلوم أن مشوار التفوق والنجاح في أي نشاط إنساني محفوف بمشاق كبيرة يذللها - بعد عون الله تعالى- قدر من الذكاء المهني، ثم العزم والثقة والعمل الدؤوب الذي لا يدركه أرق، ولا يحبطه يأس، هما ثمرة التحصيل الجاد والجهد المثابر والعزم الصادق وصولًا إلى الغاية المنشودة.
حينما يود الإنسان أن يكسب المجد و النجاح والشهرة والتفوق، وأن يضاعف دخله المالي، أو يُحسّن مستقبله، فأول ما يخطر بباله أن يضاعف الجهد الذي يبذله، ومع أن الجهد والعمل ركنان لازمان للتفوق والنجاح، إلا أنهما وحدهما لا يكفيان، فلا بد من أن تترافق مع قيم أساسية مطلوبة هنا، وهي الحكمة والذكاء والاستقامة والخلق القويم، هذه هي عناصر النجاح الحقيقية، فمن سيئات العصر الذي نعيشه وتداعياته ضغط الحياة وقسوة الأيام التي غيرت قيمنا الدينية والأخلاقية وجلبت لنا الشرور والدمار، ولعل الذي يحكم أخلاقيات أديب أو عالم أو فنان أو طبيب على وجه الدقة هي تلك الاستقامة، القلب الحيوي في كل المهن الإنسانية.
كان لا بدّ من هذا المدخل لمناقشة فكر سائد في مجتمعنا فيما يختص بموضوع شهادة الطب ولمن تمنح ..! وكثيرون هم الداخلون إلى دنيا الطب .. لكن البالغين قمته قليل .. وقليل جدًا ..! ذلك أن البارعين في الطب .. لا يجاوزون قنطرته إلا بعد أن تتحقق فيهم الاستقامة .. الاستقامة بمعناها الأخلاقي العميق، ففيها النجاح والإبداع .
في مدرسة الطب أفرزت لنا فئات من الأطباء، منهم من تخرج من مدرسته نكرة لم يحقق في مهنته نجاحًا ولم يترك ذكرًا، وضاع في دوامة الحياة، التي يضيع فيها الطبيب وغير الطبيب، ومنهم من قصر على نيل اجازة الطب من قبيل التباهي والوجاهة الاجتماعية، ومنهم من بات شغله الشاغل اقتناص الفرص لأغراض ومطامع شخصية، ومظاهر اجتماعية بمخلفاتها السطحية، وتخلَّوا عن ضمائرهم وأخلاقيات العمل والمواطنة، ومنهم المثابر الذي حصل على أعلى درجات التفوّق، متمكنًا وناجحًا، طور أسلوبه وعمل على الرقي بقدراته، وقد وضع نصب عينيه هدفًا يصل إليه، وهو مساعدة المرضى، ورفع معاناتهم، ومعنوياتهم، والتخفيف من آلامهم، والابتسامة في وجههم، لديه القبول والترحاب، فلا يشغله عنهم عبث، ولا يحوله لهو أو لعب، مثل هؤلاء الأطباء التي تميزت حياتهم بالعمل الدؤوب والاستقامة، لديهم السمعة الطيبة، هم الممتازون الأفذاذ المخلصون الذين نذروا أنفسهم لصالح الخير والتفاؤل والإبداع وكل القيم الجميلة، جعل الله في أفئدتهم كمًا كبيرًا من الرحمة والشفقة وحب الخير والإسراع إلى مساعدة المرضى، الذين لا يرضون بأقل من الصيت البعيد، والشهرة المستفيضة . هذه لمحة سريعة لكل ما افرزته لنا مدرسة الطب، ولكن الذي يبقى من الجميع الطبيب الناصح .. نعم نعم الطبيب الناصح الذي يملك عقلية مهنية وتقنية، وسَجِلْ مُشَرّف في إحترام القيم الإنسانية والأخلاقية، اجتمعت لتكون طابعًا متميزًا ونموذجًا يحتذى، أعجبنا به أشد الإعجاب، ولم ينكر أنه شكل مدرسة قائمة بذاتها ونهجًا متميزًا للأجيال القادمة.
ليس هناك من يجادل في أننا لا نستطيع أن نسمح بدخول من يشاء إلى مدرسة الطب ولعل السبب في استثناء هذا التخصص هي سلسلة من التحديات الأخلاقية التي برزت أمام الطب في عصرنا الحالي، فالقَسَم الذي كان الأطباء يؤدونه عند تخرجهم في الجامعات لم يعد له قيمة مهنية وأخلاقية، فالفكر المادي جرّد كل هذه الأخلاقيات من قيمتها وأدخلَنا في رمال متحركة من السهل الغوص فيها، فنحن الآن أمام سيطرة رجال الأعمال على مهنة الطب، وتجاوزت الأطباء، وهذا يعني تطبيق قانون الغاب في التعامل مع الإنسان، وهذا ما نراه ونسمعه من المترددين على المستشفيات الخاصة، وكنت أحدهم للأسف الشديد، ولا يسع المجال بسرد تلك التجاووات التي تشير إلى طغيان المادة وسيطرتها على الحياة، نعم قبل أسبوع كنت برفقة الأهل في زيارة لأحد المشافي الخاصة لعلاج جرح بسيط في طرف أحد أصابع اليد، توجهنا لطبيب الباطنية وبعد الفحوصات المخبرية تبين كل شيء تمام، ولم يصرف لنا علاج، بل تم تحويل الملف إلى طبيب الجلدية وبكشف جديد، وقد مارست الطبيبة نفس الإجراء الذي مارسه زميلها طبيب الباطنية من تحاليل طبية متعددة بحجة أن العلاج لا يصرف إلا بعد التأكد من بعض الفحوصات المخبرية، وبعد يوم راجعنا العيادة، وانتظرنا بأروقة الانتظار أكثر من ساعة، خرجت الممرضة من الغرفة لتسلمنا الوصفة الطبية، وموعد المراجعة شفهيًا، ولم نتمكن من رؤية الطبيبة والتحدث معها مباشرة بسبب كثرة المراجعين في صورة تستحق مقتنا أو ازدراءنا. وخرجنا من المشفى بأثر سلبي وبخمس فحوصات طبية ونفقات تتجاوز الألف ريال تقريبًا، وهذه تكلفة جرح بسيط، وتصور لو كان المراجع في مرحلة نزيف أو حالة قلبية كم كانت نفقات العلاج !! نعم تساءلت لماذا كل هذه التحاليل؟ وماذا يعني ذلك؟! وقد يكون إلزامية التأمين الطبي جعلت من هكذا مشافي تبالغ في فواتير العلاج، خاصة أن غالبية المرضى لديهم تأمينًا طبيًا من جهات عملهم . لجوء الأطباء إلى أساليب ملتوية للوصول إلى رضا صاحب المنشأة الصحية هي " بدع طبية ضد الإنسانية " .
لقد تنامت ظاهرة التهاون وعدم المبالاة لدى بعض الأطباء، تجده ليس جادًّا في عمله وليس مهتمًا بمرضاه، مشغول بأمور أخرى، ولربما لم يكلف نفسه الاطّلاع على ملف المريض إلا تصفحًا، ويكتفي بسؤال المريض مجاملة، ولا يعنيه أن يسمع كامل التفاصيل منه، ولا يكلّف نفسه شرح المرض للمريض .. بعض الأطباء لم يعد يرى مرضاه على الأسرة البيضاء إلا نادرًا، شاهدت ذلك بنفسي، فهو يعتمد على الممرضة وعلى أجهزة التشخيص ونتائج المختبرات، دون أن يضع يده على المريض، أو أن يستمع إليه بما يكفي لمعرفة وضعه الصحي . حالة الاسترسال واللامبالاة، تعتبر خيانة للأمانة، وهي خلاف تعاليم الدين وأخلاقيات الطب، نحن نخاف من سلوك هكذا أطباء .. خوف كل منا أن تلقي به الظروف والأيام في يد جراح من النوع الذي لا تتوفر فيه القدرة على الانضباط الفكري والأخلاقي والموهبة الفنية والمهنية التي تتلائم مع امكانياته وطاقاته، والملكات اللازمة لحقل تخصصه، يستطيع أن يجيد فيه ويبدع .
عندما لا تتوفر في الطبيب الشروط والضوابط والحصانات اللازمة، ثم لا يكون أهلاً لذلك عقلاً وخلقًا وتأهيلاً، فينحرف عن الدرب السوي، ويهوي إلى قاع الفشل والإخفاق، وانطلاقًا من هذه الرؤية التي بمثابة المحصلة النهائية التي نتج عنها سلوك مدمر بسبب سوء اختيار التخصص غير الملائم لرغبته واتجاهه وهواه، فكثير من الآباء صنعوا مستقبل أبنائهم من الألقاب التي أطلقوها عليهم كمناداة أحد الأبناء بالدكتور، والآخر بالمهندس .. ويتشرب الأبن الفكرة التي ظل الوالدان يزرعانها في عقبه فيتجه طوال حياته حسب ذلك التوجيه، فمن الظلم أن تحدد مستقبل أبنكَ العملي دون أن تعرف رغبته الأولى وقدرته الفكرية والنفسية بالنجاح وإتقان العمل، فالطب ليس مجرد مادة علمية تسكب في عقول الطلبة، بل هي معايشة يومية واحتكاك بالأتراب والأطباء، والرغبة الصادقة في العمل الطبي، والإلتزام بآداب وضوابط الأداء، وتكيف مع الجو الطبي بشكل عام، والطبيب بدون أن يمارس ليس طبيبًا، لأن مهنة الطب ليست مهنة يتم تعلمها فقط عن طريق الكتب، كما أن وجود اللمسات الأكاديمية يعزز نوعية الخدمات الطبية بشكل كبير، فصارت مهمة الطبيب الأولى تشخيص المرض وتحديد الدواء، فتشخيص المرض نصف العلاج، ومن هنا فإن المعالج الناجح هو الذي يتعرف على حقيقة المشكلة قبل أن يقدم العلاج ؛ إذ كيف يعالج الطبيب مرضًا لا يعرفه؟!
ختامًا ، نشير إلى أننا لم نكن في هذه الخاطرة بصدد نقد فكر آخر وقيمه الأخلاقية، بل كان هدفنا لفت النظر إلى مسائل بالغة الأهمية بدأت تفرض ذاتها بإلحاح على مجتمعاتنا، فالمال أو الوجاهة ليسا هما الهدف أو الغاية، فليس هناك ما يؤكد إنسانية الفرد كالعمل والجد والاستقامة بمعناها الأخلاقي، وما نراه في الطب أخذ عندنا اتجاهًا مختلفًا ، فالدين يفرض علينا حماية الإنسان، وفي اعتقادنا إن الأطباء مسؤولون عن حماية أرواح المرضى .. فلابد من التوعية .. إنها مسؤولية .. مسؤولية نطالب بها .. وهذا واجبنا نحو مجتمعنا وبلدنا المعطاء .. إنها الحقيقة التي يجب أن نجاهد من أجلها .. وكلنا احترام للطبيب الناصح الذي حصل على أعلى درجات التفوّق .. متمكنًا وناجحًا في تجسيد شخصية الطبيب الباحث العالم، الذي لا يعنيه سوى خدمة المرضى واسعادهم، فقيمة الإنسان هو ما يقدِّمه من جهد وخيرٍ لأهله ومجتمعه والإنسانية جمعاء، مخلصًا لله في جميع أعماله، محتسبًا جهده عند خالق الكون عز وجل .
-- نبكي ونذرف الدمع السخين على أهلنا وأحبتنا وأبناء مجتمعنا كانوا بيننا وأمام أعيننا وفجأة وفي غمضة عين غادرونا، اللهم أرحمهم وأجعل قبورهم خير مسكن تغفو به أعينهم حتى تقوم الساعة وارحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى خاتم الرسل وعلى آل بيته الطيبين الأطهار .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد .
_________
--،قد تفرض عليك الظروف الأسرية والإجتماعية، وأن تعيش في وسط فيه نوازع الأنانية والحسد والكيد، فيتحتم عليه إختيار التخصص الجامعي يحدّده رغبة والداك اللذان أرادا لك أن تكون طبيبًا وليس مهندسًا، إذ أن من الخطر الميل لرغبات الآباء من اجل ارضائهم، بينما قواك الذهنية في إتجاه آخر، هنا تدرك الفشل، والفشل أمر شديد على النفس، إذ يضعف الثقة بها والإيمان بقدراتها.
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق