ليلة القدر هي سيدة الليالي، جرت فيها أحداث مهمة، اختصت بها دون باقي أيام وليالي السنة، بل تشرفت بها على كل الأزمان، وهذه الأحداث - كما أشارت إليها سورة القدر - : هي ليلة نزول القرآن الكريم، وليلة نزول الملائكة والروح. إذن، هذه ليلة خُصت من بين ليالي شهر رمضان، وبأنّها أفضل ليلة في السنة، بفضل بالغ، وأجر جامع، وثواب واسع، لا يُحصيه إلا الله تعالى؛ لذا نرى المؤمنين يهتمون بإحياء هذه الليلة بالعبادة، طلبًا لقضاء الحوائج، ونيل المطالب - سواء الدنيوية أو الأخروية - فالسعيد من توفّق لإحيائها، والشقي من حُرم من خيرها وبركاتها . وإنطلاقًا من هذا المعنى، إننا نعيش في رحاب هذا الشهر الكريم، شهر القرآن كتاب الله الخالد، والمعجزة الباهرة، والدستور الحكيم، والمنهج القويم .. قال تعالى:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ }، ونحن نعيش في أجواء ليلة مباركة، أنزل الله سبحانه وتعالى فيها كتابه المجيد، العبادة فيها خيرٌ من ألف شهر .. قال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }، في ليلة القدر يُقدّر كل شيء من كل سنة إلى مثلها من خير أو شر، أو طاعة أو معصية، أو مولود أو أجل أو رزق، فما قُدِّر في تلك الليلة وقضي فهو من المحتوم، ولله المشيئة .. في ليلة القدر يحدّد هوية المؤمن ويتوقّف قبول العبادة على الإخلاص وصدق النية، ومولى المتقين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لأحد أصحابه: « يا نوف إن طال بكاؤك هذه الليلة مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غدًا بين يدي الله عزّ وجلّ .. » بحار الأنوار، ج ٤١،ص٢٢ .
يعيش المؤمن في هذه الليلة المباركة بروحية صادقة وقلوب طاهرة ونيات مخلصة واقبال كامل، وهو مُطَالب بمحاسبة نفسه ليشخّص الأخطاء فيجتنبها ويعرف الصالحات فيتزود منها، ويَطلب من الباري تبارك وتعالى إعانته في ذلك . وهي فرصة عظيمة تمكّن المؤمن من إصلاح نفسه وتغييرها إلى الأفضل والأحسن.
العديد من العبادات في هذه الليلة المباركة أفضل وأكثر ثوابًا كالصدقة والبذل والعطاء .. ولها تأثيرات على الطهارة الباطنية القلبية فهي أساس الكمالات، علينا أن نتوجه إلى الله تعالى بأخلاص وصدق النية، وهذا يتطلب منا التخلص من الضغائن والأحقاد والتي هي من أعظم موانع قبول الأعمال، والقلب لا يطهر بالاستغفار والتسبيح المحض الذي لا يتجاوز تراقينا، وإلا فما أكثر المستغفرين والمُهلِّلين والمسبحين الذين تفوح منهم رائحة الكراهية والحسد لأبناء جلدتهم بسبب خلاف هامشي أو غيره !!
هناك من الناس حينما تقول له: «أصفح عن أخيك»، «أغفر لزميلك»، يقول:«لا تدري أنت ماذا عمل» ؟، ولكنك ماذا عملت أنت أيضًا تجاه الله !! إنك تريد من الله أن يغفر لك ذنوبك مهما كانت كبيرة وعظيمة، وما قدر هذه الذنوب التي تتعلق بقضايا الحياة أمام الذنوب التي تريد عفو الله تعالى عنها؟ يقول الله تعالى:{ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ } [سورة النور، الآية: ٢٢]، فمن كان يحبّ ويريد مغفرة الله وعفوه، فأفضل طريق لذلك هو العفو عمّن أساء إليه مهما كانت إساءته، تقرّب إلى الله تعالى بالعفو عمّن أساء إليك، وبالصفح عن إساءته، من قريبين أو بعيدين،وخاصّة من الأرحام والأقرباء، أو الجيران والزملاء فهذا أفضل الطرق، فأعمال ليلة القدر وحدها لا تكفي، والمبالغة في الدعاء هذه الليلة بطلب العفو والمغفرة لا يأتي إلا بالصفح والعفو للوصول إلى جناب القرب من الله. لأنَّ من أراد الله وفهم كتابه لا بُدَّ له من اتخاذ السُبل المؤدية إليه.
كيف يتوفّق المؤمن لاستثمار ليلة القدر وللاستزادة من بركاتها وخيراتها ؟ هذا ما أشارت له فقرة من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبته حيث قال: « فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه » وسائل الشيعة، ج١٠، ص٣١٤ ؛ إن الشرط الأول هو النية الصادقة وتعني العزم والقصد، أمّا الشرط الثاني فهو: «طهارة القلب» فعلى المؤمن أن ينظّف ما في قلبه من الأحقاد والضغائن والحسّاسيّات على العباد؛ ليضمن توفيق الله تعالى، فوجودها يعيق أعمال شهر رمضان وليلة القدر المباركة، لهذا ينبغي للمؤمن أن يتهيىء لإحياء هذه الليلة الشريفة بأن يهتم بنظافة داخله وقلبه من جميع المعيقات ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والتسامح والصفح والتجاوز لعباد الله. مهم أن ننشر ثقافة العبادة والدعاء، شرط أن ترافقها دعوة للتسامح والمحبّة، هذا هو مانحتاجه.
ولكي نستفيد من بركات ساعات ليلة القدر المباركة، لا بُدّ من الاستعداد والتهيؤ لاستثمارها لنكسب منها أعلى قدر من الخيرات والبركات، فهي فرصة عظيمة، على المؤمن ألّا يفرط فبها .
صاحب الزمان - عجل الله فرجه - إمامنا الحاضر ولي العصر أرواحنا فداه، إنه واسطة كل فيض ونعمة وإنه صاحب ليلة القدر تتنزّل الملائكة والروح فيها عليه، ما يذكره العلامة المجلسي في بحار الأنوار،ج٩٤، ص١٤، تفسير القمي في قوله تعالى { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } قال تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، أسأل الباري عزّ وجلّ أن يوفقنا لقيامها، ونيل ما أعدّه للعاملين فيها، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الهداة والميامين.
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق