#خاطرة_الجمعة « ماضينا .. نظام حياة ..! »
{.. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ..} صدق الله العلي العظيم . يقال عمومًا إن الحاضر مؤلم، وإن المستقبل مصدر قلق، وإن الماضي هو المرحلة الزمنية الوحيدة الخالية من الألم والقلق، ولذا فهو مثير للحنين. فهل الأمر صحيح ؟!
حينما يتسنى لنا تأمل المشهد الإبداعي، لا بد لنا أن نستدعي الماضي، لنستحضر في الغالب ذكريات قديمة في عمر السنين، لكنها قريبة من القلب والخاطر؛ كأنها البارحة، صور كانت في الذاكرة والوجدان، تستحق أن تُروى، ولا سيما فيما يتصل بفترة الطفولة، فكل شيء له صلة بذاكرة الطفولة لذيذ وجميل ..
حين نفتقد الأشياء البسيطة في حياتنا والتي لا تقدر قيمتها أو ارتباطنا بها، نشعر فيما بعد كم هي غالية أو حميمة، ففي تلك الأيام كنا لا نعرف من الطعام شيء غير البلدي، وعندما وعينا الدنيا شعرنا بقيمة " قرص التنور " أو " السمن البقري " أو " الدجاج البلدي " .. شعرنا بفقدان لقيمات لذيذة وطازجة طالما ألفناها، وصحون فطمنا على نكهتها، وشببنا على رائحتها .. كنا صغارًا ملأت أجوافنا تلك اللقيمات اللذيذة، كم يبحث أحدنا، وكم يقضي أيامًا وأيامًا باحثًا عن تلك اللذة فلا يجدها .
قبل أكثر من خمسين عامًا، كانت الحياة بسيطة ولكنها غنية بالقيم، إلا هناك كان الفقر يعايش غالبية الناس، ولم نكن نعرف الحال " المستورة " خير من الرخاء وزيادة العيش، كنا برغم الفقر أقوياء، أجسامنا لا تعرف الترهل، كان فطورنا عندما نستيقظ شيئًا من الحليب الطازج، والبيض البلدي، والخبز العربي، نأكل بيضة واحدة برغيفين، ونغمس الخبز بالحليب، وكانت الأمهات يصنعن بعض الأكلات الشعبية، وهذا لا يحدث كل يوم بالطبع، حسب أحوال آبائنا، وكان أحدنا يأخذ مصروفه اليومي - قرشان أو أربعة قروش - ذات قيمة يشتري به رغيفًا وحلوى، وكنا نتلهف على هذا الرغيف وهذه الحلوى، كالشهد بالنسبة لنا نحن الذين تعودنا تناول كسرة الخبز الناشف، وبرغم ذلك كانت هناك صحة وكانت هناك قوة لا مثيل لها، فلم تكن لدينا أمراض العصر ولا مشكلاته، كان الطعام قليلًا ولكنه طبيعيًا .. تتجمع العائلة رغم كثرة أفرادها على مائدة واحدة، إذ لم يعد مستغربًا أن ترى مشهدًا أكثر تلاحمًا، عائلة تعيش في مسكن واحد تضم الآباء والأبناء والأحفاد على السواء، تجمعهم سفرة دائرية، والتحلق التلقائي الحميم على صحن الغداء، في وقت مُحدَّد متعارف عليه، واحيانًا من دون نداء، والتأخر عنه يعني فاتورة من الجوع تدفعها المعدة لقاء تخلف صاحبها عن موعده، وكذلك الحال في بقية الوجبات، أثبت ذلك التجمع دورًا اجتماعيًا وتربويًا في حياة العائلة .
-- زمان عندما نجلس على الطعام ؛ كنا نأكل ما تقع عليه أيدينا من رزق الله، نبطش بأي صحن نجده أمامنا ونسارع بالتهام ما يتبقى في يدنا، بل كنا نلتقط بقايا الرز وفتافيت الطعام المتبقية على السفرة أو الساقطة على الأرض .
-- زمان كنا نلعق الدهن دون وجل، وكان الشحم زينة المائدة وعلامة اليسر بل ربما الترف، وكان اللحم لدينا لا مذاق له دون شحم لتعطي حبيبات الرز نكهة دسمة لا تقاوم .
-- زمان كان الخباز إبن البلد، كنا نجلب الخبز العربي إلى موائدنا منه، وكان يتقن الخلطة والتحوير، ونعرف اليد الذي كونته والنار التي انضجته .
-- زمان كانت الأبواب مفتوحة للضيف، يستقبلونه ويحسنون ضيافته ويسعدون بتواجده رغم عسر الحياة، والمرأة تعد السفرة بطبيعتها العفوية، وبساطتها المعهودة، ولمساتها الطيبة دون كلل أو ملل أو عناد تسعى من وراء ذلك رضا الله .
-- رحم الله أيام زمان كانت الأكلات لها نكهة وطعمًا مختلفًا .. كان طبيعيًا وتم إعداده على نار هادئة بحيث يكون متقن الطبخ وجيد الهضم، وكانت نوعية المواد التي تستخدم في الماضي من الأرض الخالصة التي لم تقربها شوائب الملوثات، نحن الآن في عصر السرعة معظم الأطعمة التي من أصل نباتي أو حيواني، افتقدت مقومات الطعم الطازج الذي ذهبت به ثقافة التعليب، وطناجر الضغط البخاري والميكرويف، وبعض الأواني وأدوات الطهي المطلية باﻟﻜﻴﻤﺎوﻳﺎت اﻟﺨﻄﺮة، كما أن التقنيات الحديثة لعبت دورًا كبيرًا في عملية تخزين ومعالجات الغذاء، مما يحول دون استذواق الطعام الذي كنا نعرفه أيام زمان. لقد تبدَّل حالنا فانتقلنا من قصة البساطة بكل تفاصيلها الراكدة الهادئة إلى الإيقاع الراكض الذي جلب علينا من الشقاء قدر ما جلب لنا ما ظنناه من فرط سذاجتنا راحة وسعادة . فهنيئًا لأبائنا وأجدادنا عاشوا حياة رغيدة، في عصر الطيبات، في أحسن الأزمان، بلا توتر وقلق وأمراض ومتطلبات، ولا يوجد ما يعكر صفو الحياة . فهل سنظل نتحسّر على أيام زمان؟!
-- حبينا تلك الحياة بما فيها من ذكريات .. حبينا تلك الحياة بما فيها من بساطة وراحة بال وهدوء حال .. حبينا ماضينا .. ماضينا الذي عشناه بكل ما فيه من عادات وقيم وأعراف، أجد فيه أثمن كنز وأغلى شيء أحتفظ به في عصر ممزق نعيشه، فكل شيء تحول إلى معنى مادي لا قيمة له ولا رجاء .. فلنا في الماضي ثمة ما يُضيء دروب الحياة .. كان ذلك نظام حياة !!
-- نسأل الله أن يشافي مرضانا، ويرحم موتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات، اللهُمَّ صَلِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَ اَخْتِمْ لي بِخَيْر ..
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد .
___
-- أمي .. أيتها السيدة الراقية - أطال الله في عمركِ - أرى في قلبكِ واحة خضراء تحتضن كل الصعاب، صدر مليء بالحب والثقة والإيمان، أمي التي غذتني من معين القيم والمُثُل شكلت مدرسةً قائمةً بذاتها ونهجًا متميزًا في إدارة شؤون البيت، تجيد الكثير من طرائق طهو الأكلات، كنا صغارًا ملأت أجوافنا لقيمات نظيفة طازجة، تسعد عندما نتحلق حول المائدة، كان الدخان يتصاعد مع عبق روائح الطعام لازالت مخزونة في الذاكرة كأجمل دخان وأروع رائحة .
محبكم/ منصور الصلبوخ .
تعليقات
إرسال تعليق