#خاطرة_الجمعة « أليس الوقت هو العمر؟! فتنبه. »


 #خاطرة_الجمعة « أليس الوقت هو العمر؟! فتنبه. » 

لقد جرت العادة أن الذي يكتب بعد تقاعده عن نفسه وتجربته الخاصة والعملية، لا يحتاج في الحقيقة أن يسأل نفسه لماذا يكتب؟ لأن الجواب واضح، وهو أن لديه شيئًا يريد إيصاله للناس، أو هكذا على الأقل ويعتقد . الأمر يحتاج إلى وقفات تأمل لبعض محطات العمر لكونها رحلة طويلة في عصر مثخن بالتجارب والتحديات والانجازات، ومن واجب جيل اليوم أن يتعامل معها حتى تواصل القافلة سيرها بنفس النجاح إن شاء الله .

وبعد ،،، ماذا عساني أن أقول عن سنوات عمري الوظيفية وتجربتي الحياتية التي لازمتني سنينًا طويلة، وإلى المكان الذي ألفته وعرفت فيه من عرفت؟ فقد كانت مرحلة عمل وجهد مبذول، وعطاء موصول، وإنجاز مأمول ..  مشوار طويل بدأته في أقسام مختبر الجودة والنوعية بالدمام التابع لوزارة التجارة والصناعة، واكتسبت من خلالها معارف وخبرات، وحصلت على شهادات تدريب من الفريق الأمريكي المختص بتطوير مختبرات الوزارة، في الملوثات العضوية والكيميائية. حينها استلمت مهام قسم الملوثات وكُلّفت برئاسة قسم السموم الفطرية " الافلاتوكسين " و بعدها قسم " المبيدات الحشرية " لقد كانت سنوات عمل وجهد متواصل في الفحوصات والتحاليل المخبرية، وبعدها شُرفْتُ من أصحاب القرار برئاسة قسم المطابقة في الوزارة تلاها قطاع التفتيش بالهيئة العامة للغذاء والدواء بالمنطقة الشرقية. هذا القسم المسؤول عن فسح الأغذية المستوردة. فهي بداية المسؤولية، وكانت فرصة أقف من خلالها على أرضية صلبة من الخبرة والدراية .. وراء تلك المكاتب الزاخرة بالأوراق والتقارير والمعاملات حققت بفضل الله ما أردت، وأول لحظة إنجاز عشتها وقطفت ثمارها، كانت عندما قدمت رأيًا يتضمن عدم السماح بإضافة المحليات الأصطناعية لأغذية الأطفال ليشمل فوق الــ « 3  سنوات » وقد بذلتُ جهدًا كبيرًا في سبيل إقناع المختصين وأصحاب القرار في هيئة المواصفات والمقاييس على المقترح، وتم التوصل في النهاية إلى الإكتفاء بتدوين تحذيرات الأستعمال ضمن بيانات بطاقة المنتج الغذائي . وقد كانت من أبرز ثمرات ذلك الإنجاز والتي مثلت لي نقلةً نوعية هامة في عملية اتخاذ القرار .. فصناعة القرار ليس بالأمر اليسير، لأنها تتطلب بحثًا طويلًا وأناةً أطول، وإحاطة بكل دقيق وجديد من بحوث ودراسات والإطلاع على كل ما يتعلق بالمواصفات واللوائح الفنية المعتمدة والتعليمات من الجهات المعنية. لقد استفدتُ كثيرًا من حصاد النضج المعرفي ومن تراكم الخبرة .. التوفيق في إصدار قرارات الفسح، ولم أندم قط والحمد لله عن أي قرار إتخذته، وكان رئيس قطاع التفتيش بالهيئة العامة للغذاء والدواء بالمنطقة الشرقية أطال الله في عمره، يشد أزري وأشد أزره، ويعمل على تذليل العقبات بما تمليه مصالحُ الناس، أمضينا معًا منذ أكثر من ثلث قرن. وعلمتني تجربة العمل إنه ليس لمعادلة النجاح وصفة تقرأ في الكتب، ولكن المرء العاقل يتعلم من تجاربه، خطأً وصوابًا، وأحمد لله أن مكّنني من خدمة هذا الوطن الغالي وأن كنت أطمع في الأفضل دائمًا، وهي تجربة أعتز بها في كل حال، لأنها أضافت لي الكثير خبرةً ومعرفةً .

تقاعدت في سن الستين من عملي الوظيفي وتفرغت إلى عشقي .. وما يعنيه لي عشق الحرف والقراءة، وعمل الخير، والاستمرار في التحصيل المعرفي، والبحث عن كل جديد في مجال تخصصي، والجلسات مع الأهل والأحباب و مشاركة الناس في المناسبات، وبدأت أشعر بأن لدي باعًا أكبر من الوقت الثمين للبحث والإطلاع من أجل التفاعل الإيجابي مع قضايا المجتمع وخصوصًا من الناحية الصحية والتغذوية، فالوقت هو العنصر الوحيد الذي يرتفع ثمنه باستمرار، لأنه ما نملكه منه محدود ولا يمكن زيادته أو إطالته، والطلب عليه في ازدياد لذا فإن أفضل طريقة في كيفية استثمار الوقت وتحديد أولوياته تكمن في استغلاله بصورة أفضل، أي بحكمة وفاعلية.

مفهوم التخطيط لما بعد التقاعد يختلف اختلافًا كبيرًا بين فرد وآخر كاختلاف الأفراد أنفسهم فكثرت المفاهيم وتضاعفت الأفكار، حتى أصبح الوصول إلى نهاية العمل الوظيفي أمر مطلوب وهاجس مرغوب لمعظم الناس .  

يشكو أغلب المتقاعدين من ضياع وقتهم وجهدهم دون فائدة. وقد علمتني الأيام أن المتعة ليست في الكف عن العمل والإخلاد إلى الراحة  والاسترخاء انتظارًا بما سيحل بنا من اسقام، ولكن في المثابرة والعمل الدؤوب الذي لا يدركه عجز وخمول، ولا يحبطه يأس وهزيمة وانكسار، ولذا، نستشعر بالسعادة أو نسعى إليها حينما نقدم خدمة للناس أو نسير في نفس الاتجاه.

من وصايا الإمام الحسن بن علي عليه السلام: ‏« اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا » الميلاني: قادتنا كيف نعرفهم: ج ٥، ص٣٢٦.

وما أتمناه بعد عون الله وتوفيقه، ثم دعاء الوالدة أطال الله في عمرها، هو أن أكمل سنين عمري محتفظًا بنشاطي وذاكرتي لا أعرف للركود سبيلا ولا للضعف طريقًا، كي تستمر رسالتنا التي نؤمن بها، والهدف الذي نصبو إليه، نعمل بلا توقف لصالح الخير والتفائل والإبداع وكل القيم الجميلة، وأن يرزقنا الله الثواب من عنده .. وما أتمناه هو أن أموت وأنا أملك القدرة على التعامل الأفضل مع معطيات الحياة .. فما أتمناه هو أن لا يأتي اليوم الذي يؤكد لي الأطباء مرضي وضعفي وأضطر إلى التوقف عن ممارسة العمل الذي اخترته لنفسي . أنها حقيقة مرة وقاسية تقف لي بالمرصاد وتجعلني عاجزًا عن العمل والعطاء والعياذ بالله !!

اسأل الله أن يعمر قلبي بالإيمان والتقوى، والمزيد من صلاح النفس، ونقاء النية، وحسن المعاد ..  ولعل خير ما نختم به هذه الخاطرة تلك الأمنية التي دومًا أرددها: " أمنيتي الكبرى أن ألقى ربي وهو راض عني " .

نبكي ونذرف الدمع السخين على أهلنا وأحبتنا وأبناء مجتمعنا كانوا بيننا وأمام أعيننا وفجأة وفي غمضة عين غادرونا ، اللهم أرحمهم وأجعل قبورهم خير مسكن تغفو به أعينهم حتى تقوم الساعة وارحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه ، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى خاتم الرسل وعلى آل بيته الطيبين الأطهار .

            ~ جمعة مباركة ~ 

_________

-- مائة عامًا قضاها الرجل في العمل دون أن يشعر بالتعب والكسل ولم يصاب بعلل تعيقه عن ممارسة العمل الذي اختاره لنفسه، طوال سنين عمره ظل الرجل محتفظًا بنشاطه وذاكرته .. هؤلاء الأشخاص ملكوا مفاتيح الحياة !!

محبكم/ منصور الصلبوخ.

تعليقات