لا حاجة بنا إلى تأكيد أهمية وسائل التواصل الإجتماعي في العالم بأسره، فمن الضروري أن نتواصل مع بعضنا البعض: أسرًا وأقارب وأصدقاء وزملاء في مجتمعاتنا، وحال الكثيرين الذين يتلقون أويرسلون ويتبادلون الأحاديث والتوجيهات والمعلومات .. هذه الوسائل فرضت نفسها وعكست واقع مستخدميها وتعاطيهم معها، مما يجعل الواحد منا معرضًا للتأثر بها، إن لم يكن يقظًا حذرًا.
وبنظرة واحدة إلى واقعنا الحاضر، عصر التقنية، ندركُ أن معظمنا يقضي قسطًا كبيرًا من وقته في مواقع التواصل الإجتماعي .. تتسمّر عيوننا على الشاشات .. أينما توجهنا في البيت أو المكتب أو السيارة، إنه عصر الشاشة المضيئة .. عيوننا على شاشات الأجهزة الذكية ما يشبه الإدمان، إذ لا نجد ساعة من الهدوء دون النظر إلى الشاشة، يكفي المرء، أينما كان أن يدقق النظر قليلًا في ما حوله ليكتشف إلى أي حد اكتسحت قنوات التواصل حياتنا اليومية .. حياتنا تم إغراقها في سيل من القنوات التواصل الإجتماعية، ولا عيب فيها لأنها وسيلة مطلوبة، فهي تسهل حياتنا وتنشر ثقافتنا وتساهم في نشر العلم وتمدنا بأخبار العالم، ونحن على أرائكنا، العيب في الانغماس في استخدام هذا النوع من التواصل الذي ينسينا الدور الحيوي الذي يمس حياتنا بتفاصيلها .. وروابطنا الشخصية والعائلية وأحوالنا الاجتماعية، ولا أظن اليوم هناك بيت من بيوت مجتمعنا إلّا وتأثر بهذه الوسيلة، لكن خيبتنا أن تتحول هذه الوسيلة إلى سلاح فتّاك بدلًا من سلاح فعال.
مما لا شك فيه أن الانتقادات المبنية على القواعد الأخلاقية التي يحكم من خلالها الأهل على الكثير مما تقدّمه التقنيات الحديثة قد أصبحت معممة أكثر مما يجب، فكل ما علينا فعله هو محاولة اكتشاف تلك الوسائل المختلفة لنرى أسباب نجاحها عندنا وإمكانية الاستفادة منها وحسن التصرف معها لكي يكون حكمنا عليها بشكل أصح، لقد أصبحت تقنيات الإتصال الحديثة فيها الصالح والطالح، من هنا ثارت في ذهني هذه الأسئلة: ماذا نشعر ونحن في جلسات عائلية، في حضرة الأب والأم وبقية أفراد العائلة، والكل يحمل بيده جهازًا ينظر لوهج شاشته؟ وكيف نستسيغ مثل هذه الجلسات التي تخلو من أحاديث المجالس، وكلام حول مختلف شؤون الحياة؟ وماذا نقول لمن عاصروا فترات سابقة واختبروا شكل الحياة فيها؟ أسئلة لها أول من دون آخر، ولا بد لمواجهتها بالأجوبة الصحيحة والصريحة، أن توضع على المحك الأول، أن تستدعي التربية باعتبارها بيت القصيد، أبناؤنا عرضة لكل المغريات والأهواء التي تطاردهم وتبذل جهدها لتصطادهم وتستغلهم وتحرفهم عن جادة الصواب . الحديث في هذا حديث يكاد لا ينقطع وهو شعور متنامي بالغربة !!
من المؤسف حقًا أن يتعامل الكثيرون مع هذه الوسيلة تعاملًا سلبيًا، تتمثل في التأثيرات التربوية العقائدية والأخلاقية، أصبحت سمةً من سمات الحياة، وملازمة لنا أينما كنا، هذا هو واقعنا المؤسف اليوم .. واقع علاقات الأفراد بعضهم ببعض، أصحابها لا يتحدثون مع بعضهم مباشرة، بل من خلال أجهزتهم، لقد غابت عنهم متعة الحديث ومناقشة الأحوال والمشاكل والهموم المحيطة بهم، ومن ثم بناء علاقات جيدة بينهم.
ما يميّز مجتمعاتنا المعاصرة سطوة وسائل التواصل الإجتماعي في كلّ جوانب حياتنا، بل حتى على خصوصياتنا، فبدل أن توفر وقتًا حرًا في الأنشطة والتفاعل الاجتماعي وإنجاز الأعمال، شغلت الوقت وحرمتنا من كثير من الأشياء الجميلة التي تعطي معنى للحياة مثل العائلة والأصدقاء، لقد أصبحت الآن هذه الوسائل في صميم الحياة، إذ لم يعد المنزل يقوم من دون هذه الوسائل ولم تعد العائلة تكتمل بعيدًا عن وهج الشاشة المضيئة، لقد تحولت قنوات التواصل الإجتماعي إدمانًا وطريقة حياة بحد ذاتها، وأكثرها تفشّيًا وظهورًا لدى أفراد الأسرة والمجتمع، وجزءًا من حياتهم اليومية المعتادة. لقد فقدنا متعة تلاقي الأحبة والضيوف .
هناك تحولًا ما، حدث في داخل بيوتنا، بعد ظهور تلك القنوات وتأثيراتها على الحياة الأسرية والإجتماعية، وفي تقديري أنّ هذا التحول من أصعب التحديات التي تواجه الأولياء والمربّين، لارتباطه بالقيم المجتمعية والعقدية.
نتوقف هنا لنعيد النظر في كيفية حضورنا في حياة أبنائنا ودرجة اقتراب هذا الحضور مما حولهم ومن حولهم لنلتصق بهم ولنفتح لهم عقولنا كما نفتح لهم قلوبنا، لنستمع إليهم بآذان صاغية ونحاورهم على قدر ما نتمكن من خلق ثقتهم بنا وقناعتهم بأفكارنا .. وبذلك نخلق جوًا إيجابيًا يشعر معه الأبناء بالهدوء والسكينة .
والكل يجمع على وجود أزمة توازن بين الفكر الروحي والحياتي، وإذا مارسنا بعض التأمل سنرى أننا نعيش وأبناؤنا وبناتنا تحت سقف واحد، وقد نلتقي بهم أو لا، والأقسى من ذلك والأمرّ أن التواصل معهم أخذ صبغة عصرية، ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا ذلك، لقد تحولت علاقة الأب أو علاقة الأم بالابن إلى شيء من الحضور الشكلي في حياته، بينما تركنا أفكاره وهواجسه واعماقه تلعب بها رياح الآخرين، وتدفعها وتلونها كيف تشاء !! هؤلاء الأبناء يقضون ساعات ما بعد المدرسة في رعاية أنفسهم، ويتفاعلون فيما بينهم ومع زملائهم .. يخبر أحدهما الآخر عما يفكر أو يشعر به .. هم يعودون إلى منزلٍ خالٍ. انشغال الآباء وغيابهم عن أبنائهم واهمالهم للدور التربوي في تحصينهم، خلط على الأبناء المفاهيم والحقائق واشتبه أمامهم الرؤية ورسالة الإسلام. وإذا كان هذا حال معظم الأسر في مجتمعنا يعيش أفرادها في عزلة بعيدًا عن الحوار والنقاش، قد بدا واضحًا أن تكون الصورة العائلية لا وجود لها في علاقاتنا الشخصية وروابطنا الاجتماعية، يبدو لنا أن الأمر مخيفًا، فهذا التوجه من العلاقات الإجتماعية، ستمس حياتنا بتفاصيلها، وستحول لقاءات أفراد الأسرة جلسات صامته .. يجلسون أو يجتمعون ولكنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض، بل مع أجهزتهم. نعم من المؤسف أن تتحول تجمعاتنا العائلية مجرد جلسات صمت تعكر علينا أجهزة التواصل صفونا وتكدر علينا نعمة اللقاء، ما أردت قوله إنه رغم أهمية التطور التقني وانتشار وسائل التواصل الإجتماعي، إلّا أنّ هناك قلة من الأسر تمتلك الحل الأمثل ومفاهيم التربية السليمة، تواظب على الإشراف والتوجيه والملاحظة وغرس القيم الإسلامية، وهذا شيء مهم لأنه يجعل الأبناء يدركون الصح والخطأ، وهم في أمسّ الحاجة إلى البيت والتقارب العائلي .. المدرسة التي تعلم فيها ومنها الكثير لا سيما القيم الروحية والمبادىء الإنسانية التي تضيء مستقبل الأبناء العقائدي والإيماني والروحي والأخلاقي. لقد أهملنا هذا الجانب، معتمدين على مدارس خارجية وما في حكمها، فإن النتيجة لهذا كله ستكون إخفاقًا وعقوقًا من تجاهل الروح !! فالسؤال الذي يطرح نفسه: كم منا يفسح في يومه وقتًا للروح ؟ سيقول بعضكم إننا نصلي، هذا رائع ولكن هل كل صلاة نؤديها بقدر عالٍ من الهدوء والتأمل ومحاولة التوصل إلى الحكمة الكامنة في تجاربنا اليومية؟! وحتى لو أدينا الصلاة بقدر من التأمل، هل يكفي هذا الوقت لإشباع احتياج الروح إلى وقت لها أو طقس خاص بها؟!
لو عدنا إلى الماضي غير البعيد لوجدنا وضعًا مختلفًا تمامًا، لنسأل أنفسنا: أين نحن من ماضينا القريب، أجمل ما في ذاكرتي من صباي المبكر سوالف جدّتي الخيالية والمشوقة، ربما تكون المصدر الوحيد للتسلية، أما المصدر المعرفي الآخر فهو مدرسة الديرة " الكتاتيب " التي عكفت فيها على دراسة القران الكريم. أننا نتوق إلى ماضينا الجميل .. لكن اليوم عكس الأمس، نحن نعيش في غربة إلى حدٍّ كبير، نحن لسنا كما كنا قبل نصف قرن تقريبًا، نحن اليوم في ظل الهجمة التقنية المؤدية للتغريب، من دلائلها التفكك الأسري، نحن بحاجة إلى تفعيل التجمع العائلي من جديد بعد أن غيّبتها تطبيقات الأجهزة الذكية ووسائل التواصل الإجتماعي. من يوم لأخر تسهم تلك القنوات في تجفيف ما بقي من الود.
باختصار، المكانة التي صارت تحتها وسائل التواصل الإجتماعي في حياتنا اليومية .. صارت أكبر من أن تقبل التقهقر أو التراجع، تحيط بنا من كل صوب وتقدم لنا الكثير من الخدمات، والمشكلة هي سوء التصرف مع هذه التقنيات .. فمن يراجع تفاصيل حياته اليومية يكتشف كم أن أبسط الأشياء المتوارثة من السلوكيات والممارسات والمواقف لا تزال تشكل عمادًا في سد غالبية التحديات العصرية، يعنينا اليوم ما ينتجه الغرب من وسائل وتقنيات حديثة؛ ناحيتها التربوية لفتيان الجيل الجديد وقيمتها الإيجابية في سلوكهم الواعي .. فليبتكروا من الأشياء ما شاءوا، ويجددوا ويبدعوا، ويدهشونا كبارًا وصغارًا .. لكن لن يحل شيء محل القيم والمبادىء التي أجمعت كتب الدين والأخلاق على اعتمادها دون مواربة والتواء، ترى كيف علينا كآباء وأمهات أن نحمي أنفسنا وأبنائنا من ضبط هكذا تقنيات؟!
-- ندعو الله جل وعلا أن يبارك في أرزاقنا، وأن يكفنا شر أنفسنا والسعادة من نصيبنا ويبعد عنا مايكدر خاطرنا والشفاء العاجل لمرضانا، والرحمة والغفران لموتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات بحق محمد وآله الأطهار .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد .
_________
-- هل سنظل نتحسر على أيام زمان؟ ففي أيام زمان كانت الناس على درجة من البساطة والطيبة، حتى الحياة نفسها كانت أقل تعقيدًا وأكثر سلاسة من حياتنا الحاضرة، وكانت تربية الآباء لأولادهم أكثر ملاءمة مما عليه اليوم من قوة الارتباط وشدة العلاقة ووثاقتها، فقد أصبحنا بعيدين عن أولادنا، فقط نوفر لهم مستلزماتهم من ألعاب وأجهزة ذكية وما هنالك من أمور، لأرضائهم على حساب دورنا التربوي في بناء شخصيتهم . يقول أمير المؤمنين عليه السلام: « خدمة الجسد إعطاءه ما يستدعيه من الملاذ والشهوات والمقتنيات وفي ذلك هلاك النفس » ميزان الحكمة: ج١٠، ص١٤٧ .
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق