#خاطرة_الجمعة « رُبّ كلمة جَلَبت نعمة، وكلمة جّرت نقمة »
ليس ثمة ما يترك أثرًا في النفس ما تتركه الكلمة في نفوس الناس، فالعلاقة مع الآخرين هي توازن بين أنفسنا وبينهم، أي أن لا نسيء إليهم ولا نقبل أن نكون ضحايا يُساء إلينا، ولكي نصل إلى هذا التوازن علينا أن نتعلم كيف نحسن التعامل مع الآخرين، بالكلمة الطيبة .. إنها الكلمة التي توضح لنا الحدود التي يجب أن نتوقف عندها أثناء تعاملنا مع الآخرين.
انظرْ إلى أعرابي في سفره وقد انقطع به الزاد، مرّ على مسجد في الطريق ووقف به وسأل الناس فردَّ من عامته من يسأله: من أي قوم أنت؟ فكان رد الأعرابي عذبًا يسيرًا حين قال: « ممن لا ينفعك علمه ولا يضرك جهله إن ذل السؤال منعني عز الانتساب »، وهكذا وحسب ينهي فضول السائل ويحفظ عز قومه. قد تجد في بعض كلام العرب ما يأخذ بلبك جمالُه وتفاجئك روعته وحسن حبكته، كم نعجب من فعالية الكلمة وعذوبة القول !! قال الجاحظ:« أفضل الكلام ما كان قليلة يغني عن كثيرة، ومعناه ظاهرًا في لفظه ..».
كثيرة هي الكلمات التي تمر علينا فمنها .. الحسَنُ، ومنها القبيح، ومنها ما نتوقف أمامها للتأمل والتدبر ومنها ما يمر علينا مرورًا عابرًا, وكل كلمة توزن بقيمتها ومعناها ومكانها الذي تورد فيه، فقد تشفي جراحًا، وتنهي حروبًا، وتحسم نزاعًا، وتكسب نصرًا. وقد تعيد الذل عزًا وترجع الخزي فخرًا وزهوًا .. لذلك تتطلب الكلمة عقلًا وعزمًا وإرادة ووفاء بحقها .
لا يستطيع المرء أن يغفل أو يتغافل أو ينكر أو يتنكر ما فعلته الكلمة في حياة الشعوب السابقة حتى كادوا يستغنون بها عن الطعام. فالكلمة الطيبة هي شهية الروح، وهي لذلك أقوى من شهية الطعام، لأن أمور الروح عميقة ولذاتها باقية.
ربما تذهب إلى شخص تريد الدخول معه في معركة تهشم عظامه، فيواجهك بكلام جيد فتتراجع عن قرار المعركة، وهكذا فإن الكلمة الطيبة هي أفضل سلاح في هذه الحالة، ومن هنا كانت فعالية الكلمة، فأحيانًا تكون كالسهم المصوب باتجاه معين، وأحيانًا تخرج وليس لها متسع على المسامح، فقد تكون الكلمة غذاء للروح فتوقظها وتشعل نشاطها وتنير دربها، وقد تكون كالسيف الجارح الذي يترك أثرًا عميقًا بالنفس يحتاج إلى سنوات لتضميده بالنسيان.
لا يمكننا أن نعرف الأسباب الكامنة التي دفعت شخصًا ما للإساءة إلينا، ولا نعرف تمامًا ما يدور في عقله، ولا نستطيع التأكد من أن ما فعله بقصد أو بدون قصد.
إنك لتعجب من سلوك بعض الناس، إذ يقومون بما يُنكر فعله وقوله من إساءة وإيذاء واستفزاز وكلام غير لائق لكل من يتحاور معهم في محضر الأخوة والأصحاب والغرباء وعبر قنوات التواصل دون مراعاة حقوق وكرامة الآخرين الأقربين والأبعدين بحجة العلاقة بينه وبينهم ليست بحاجة إلى حدود، مما يجرح كبرياءهم.
كلام الفحش والسخرية والاستهجان، وصولًا إلى اللفظ الجارح وما إلى ذلك من التصرّفات الاستفزازية .. قد يذكرها المتكلم بقصد فيكون من الموبقات (كبائر الذنوب) أو دون قصد فيكون هفوات اللسان التي تسبب الكثير من الحرج والإزعاج.
إطلاق الكلمة دون مراقبة ومحاسبة وتريّث ينذر بسوء العاقبة والمصير، لذا يجب على المتكلم قبل أن يتلفظ بأي كلام، أن يصغي بانتباه واهتمام لمحدثه، لأن عضّ إصبع الندم لا يجدي نفعا بعد ذلك. ثم الشيء الذي يجب أن يقال إن البعض حينما يتعود لسانه على المزاح والسخرية والكلام السوء، يعرض نفسه أحيانًا لفلتات اللسان. فعلى الشخص ترك تلك السلوكيات الكلامية أو العدوان غير المباشر، كي لا يصدر عن الأشخاص الآخرين ردّة الفعل لا يتوقعه أو ربما تزعجهم من دون أن يظهروا ذلك. فالمسألة ترتبط بالحالة النفسية والتعوّد .
وإذا فكرنا جيدًا ونظرنا في خلافات الأقرباء والأصدقاء نجدها تصب في خانة عدم احترام الآخر وخصوصياته مع غياب الكثير من القيم، فلماذا لا نحرص على حسن التعامل بين الناس، ونتحلى بالأسلوب الراقي للعيش بسلام؟ وذلك لا يكلفنا سوى التفكير في إختيار كلماتنا مسبقًا، فالتعابير اللفظية والجسدية والايماءات ونبرة الصوت التي تخرج من فمك، تصل إلى أشخاص آخرين " أهلك، إخوتك، أقاربك، أصدقائك " تبعًا لطبيعة الكلمة ومضامينها، فربما هي مؤذية ولاذعة، وتجرح الطرف الآخر خاصة إذا صدرت عنك في محضر الأهل والأصحاب أو أمام مجموعة من الناس. ففي لحظة غضب قد تدمّر كلمة طائشة ما بَناه المرءُ في سنوات !! لهذا نؤمن تمامًا أن الكلمة في موقفٍ ما شجاعة، وفي آخرَ هزيمة، وفي ثالث ذلُّ وعار !!
الكلمة حسنةٌ إذا حَسُنت غايتُها وهي غير ذلك إذا ساءت، والحكم عليها مقرونٌ بالنتيجة منها، فهي ضرورة .. متى كانت غايتُها نصرة مظلوم .. أو إصلاح ذات البين .. أو حث على مساعدة محتاج، وهي ضَرَر، متى كانت غير ذلك.
الألفاظ والصيغ الكلامية من أقوى الوسائل الدالة على المتكلم، هي تعبّر عن هوية وثقافة ووجدان المتكلم، وتتكىء على اختلافات فردية في السلوك والأمزجة، فكل من يتعامل مع الكلمة إما أن يصيب وإما أن طيخطىء. وفي إدراك المعنى إما قصور في التعبير، واما قصور في الفهم.
الكلام الطيب المتعقل الذي يجعل صاحبه يفكر بموضوعية، يأتي من داخل عقول أشخاص واثقين من أنفسهم ومقدرين لها وقادرين على التفكير بإيجابية، وبذلك يخطو هؤلاء الأشخاص خطوة مهمة نحو الحقيقة والفضيلة والجمال ولا شيء سوى ذلك، وكيف ننسى بطولة الكلمة التي جرت على لسان العباس بن عبد المطلب حينما سُئل: أ أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وكان السائل يسأل عن العمر، فأجاب العباس: " هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله " .
نخلص من ذلك إلى أن صياغة الكلمات فن نحتاج إلى إتقانه وعلم نحتاج إلى تعلمه في خطابنا الدعوي والتربوي والتعليمي، لندعو إلى ما نريد من خلال ربط المطلوب منهم بالمرغوب لهم ومراعاة المرفوض عندهم قبل طرح المفروض عليهم ولا شيء يخترق القلوب كلطف العبارة وبذل الابتسامة ولين الخطاب وسلامة القصد، وإظهار التقدير قال تعالى: {َ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَهِّ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلِْب لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَهِّ إِنَّ اللَهَّ يُحِبُّ المُْتَوَكِّلِين } أليس كلنا يريد أن يسمع كلمة " أحسنت " الكلمة المشجعة التي تعطي كل واحد منا الثقة بالنفس، وتدفعنا إلى المزيد من العمل والعطاء؟! ثم إن كلمة أحسنت ، لا شك وأنها تنخرط في مفهوم " الكلمة الطيبة" التي قال عنها الله عز وجل: { مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ..} كما أن كلمات النقد الجارحة التي تأتي من داخل عقولنا ولا نرغب سماعها على سبيل المثال: أنت فاشل وأنت غير صالح وغير ذلك من الكلام السلبي، ينخرط في مفهوم " الكلمة الخبيثة " التي قال عنها الله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} هذا التوجيه الإلهي للناس .. يضع قاعدة من قواعد التعامل الإنساني البناء .. ويوضح الأثر الإيجابي للكلمة الطيبة، والأثر السلبي للكلمة الخبيثة.
وأخيرًا ، ليكن هدفك من الكلام الدفاع عن الحق. ولا تهين وتلوم الآخرين، ولا تسخر منهم حتى لو كانت آراؤهم خاطئة. لا تكن بذيئًا مع متلقي الكلام .. ولا تستعمل الكلمات النابية .. ولا ترد على الكلام الزائف الذي يقال بحقك وإن حصل منه ما لا يليق .. إذا كان هنالك سر واحد للنجاح، فهو قول أمير المؤمنين عليه السلام: « عود لسانك لين الكلام وبذل السلام » غرر الحكم ودور الكلم .
-- ندعو الله جل وعلا أن يبارك في أرزاقنا، وأن يكفنا شر أنفسنا والسعادة من نصيبنا ويبعد عنا مايكدر خاطرنا والشفاء العاجل لمرضانا، والرحمة والغفران لموتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات بحق محمد وآله الأطهار .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.
_________
-- ومن هذا القبيل الكلمة البطلة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كان جالسًا بين صحابته، فمرت عليهم جنازة، فأمرهم بالوقوف لها، فتمتم بعضهم بأنها جنازة لغير مسلم، وهنا قال عليه الصلاة والسلام: " أليست نفسًا " ؟! . فكانت هذه الكلمة تكريمًا للبشرية وتقديرًا للانسانية، وإعطاء للنفس في حالة الموت تلك الحرمة المرعية، وكلما هم باغ أو طاغ أن ينال من هذه الحرمة دوّى في مسمعه قول الرسول العظيم صلى الله عليه وآله " أليست نفسًا " ؟!
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق