#خاطرة_الجمعة « الولد الصالح »
يدعو الرجل ربّه بإخلاص أن يرزقه بذرية صالحة تحمل عبء رسالة الاستخلاف على الأرض، وتدعو المرأة ربّها قانتة أن يرزقها ذرية عابدة، زاهدة، ناسكة.
الأبناء هم فلذات الأكباد، وريحانة الحياة، وزهور الربيع، وبلسم الجروح، ومعقد آمال آبائهم، وهم أمانة غالية في أعناقهم، وذخر الإنسانية لغدها المشرق، ولكن أمل الآباء في أبنائهم لن يصبح حقيقة واقعة ممثلة في ولد صالح، إلا بتربية واعية قوامها الحب العاقل، لا الحب العاطفي المجرد المنبعث من غريزة جامحة عمياء. فليست العبرة في أن نحب أبناءنا، بل العبرة في أن نعرف كيف نحبهم، بحيث نستمد من هذا الحب قوة بصيرة تمكننا من تهذيب أخلاقهم، وتقوية إرادتهم، وتثقيف عقولهم، وتقوية سلوكهم، وزرع الخصال الحميدة في أنفسهم؛ ليكونوا أبناء بارّين بوالديهم .
الولد الصالح أحد الأشياء الثلاثة التي لا ينقطع عمل الإنسان منها بموته، والآخران هما الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به. لذا وجب علينا أن نربي الأبناء ونعدّهم الأعداد المناسب بالتربية الصالحة المبنية على الفهم الكامل والصحيح للحياة.
نحن نعيش عصرًا متسارع الخطى، متخم بالتغيّرات والتحديات، وتسيطر الخيبات على مختلف جوانب الحياة .. وفيه بدا البيت وقد فقد دوره .. وتراجعت أساليب التربية فيه .. الأبناء لم يعودوا يسألون آباءهم وربما فقدوا إحساسهم بطعم الانجذاب والألفة والمحبة بالعائلة وقيمها وفضائلها .. فغياب الحوار بين الآباء والأبناء أهم أسباب الخلل في التربية، وهذا بدوره عزز الفجوة بين الأبناء وآبائهم وأمهاتهم.
قبلًا كان الآباء والأجداد يمارسون بعض الصرامة في زرع قيم التربية لأبنائهم، وكانت الصلاة والمداومة على تلاوة القرآن الكريم هما ضابط قويٌّ لسلوك الأبناء، ويضاف إلى ذلك قيم الصدق، والإصغاء، وغضّ البصر، واحترام الكبير، وبناء الشعور بالمسؤولية، والتي تكرس البيئة الصالحة لنمو السلوك الجيد، فالاوائل كانوا يؤسسون رؤاهم السلوكية والتربوية على النموذج والقدوة. فأين هي القدوة اليوم ؟؟!
نعلم حق العلم أن هناك تربية للوجدان، كما أن هناك تربية للتفكير، وأن تربية الوجدان لا تقتصر على الشعور الخلقي والديني، بل هي تمتد أيضًا إلى تنمية الشعور الجمالي، ولئن يكن من العسير علينا أن نفصل " الوجدان " عن " التفكير " لأن الوجود البشري وحدة عضوية لا تقبل التجزئة، إلا أن الملاحظ بصفة عامة أننا قد درجنا على اغفال " التربية الوجدانية " وقصر كل أو جل اهتمامنا على " التربية الذهنية " ، ولكن إذا سلّمنا - مع الكثير من علماء النفس - بأن مهمة التربية هي العمل على تحقيق نمو متوازن للشخصية، فلا بد لنا - بالتالي.- من الاعتراف بضرورة تنمية الوظائف الوجدانية، جنبًا إلى جنب مع الوظائف العقلية، خصوصًا وأن الصلة وثيقة بين هذين النوعين من الوظائف النفسية، بحيث أن ما يؤثر على " الوجدان " لا بد في الوقت نفسه من أن يؤثر على " التفكير ". وبما أننا في عصر انعدمت فيه التربية البيتية القائمة على التوجيه الحكيم، وسيطرت الأجواء الفاسدة والأفكار غير المحببة على مختلف الحياة، فما النهج التربوي المناسب لهذا العصر؟ أظن أن مهمة التربية من أصعب المهمات التي تواجه المربّين في هذا الزمن .. زمن الإسقاطات والإعاقة الروحية، لأنهم يتعاملون مع أبنائهم في أجواء مليئة بالمفاسد والانحرافات، أضف إلى ذلك الحياة المعاصرة التي تتطلب غياب الوالدين وإهمالهما مسؤولية التربية، والذي يهم الآباء والأمهات في هذا العصر المادي هو توفير حاجات ومتطلبات الأبناء فيما يتعلق بأمور المعيشة والدراسة، والمشكلة إن الوالدين لا يكترثان إلّا بهذين الأمرين، في حين هناك بعض التراجع في المنهج التربوي السليم، أنهم لا يهتمون كثيرًا بتقوية النواحي العقائدية والإيمانية والروحية والأخلاقية في نفوس أبنائهم التي هي عماد التربية وأساسها والتي يجب أن يربوا أطفالهم عليها ويحشوهم ويشجعوهم على التمسك بها، وهذا أمر خطير جدًا لما يترتب عليه نشوء الفساد الأخلاقي والسلوكي الذي التهم العالم بأسره تقريبًا .
بالقدر الذي نسعى فيه إلى إسعاد أبنائنا علينا أيضًا ان نذكرهم بأن لنا عليهم حقوق من المفروض أن يعرفوها وهم صغار حتى يتذكروها وهم كبار فمثلًا علينا تشجيع الأبناء وتعويدهم على إحترام آرائنا وتقاليدنا وعلاقاتنا الخاصة، وإذا مرض أحد الوالدين يفترض أن نغرس في نفوس الأبناء الاهتمام به كأن يقدم له الطعام أو الدواء، وتلبية احتياجاته ورغباته الخاصة بحيث لا تمر حالة مرضية في البيت من دون أن يشارك الأبناء مهما كانت أعمارهم في خدمة المريض ورعايته. ويفترض أن يعمل الآباء والأمهات معًا لغرس الأخلاق والقيم الإسلامية في نفوس أبنائهم لكي تؤهلهم ليكونوا عناصر حية وفعالة ومسؤولة تجاه الحقوق والوجبات الملقاة على عاتقهم، يكفي أن يرى الأب أبنائه في أحسن صورة ممثلة في ولد على قدرٍ واسعٍ من البر والرحمة بوالديه والحرص على رضاهما والاهتمام برعايتهما وقضاء حوائجهما وبالخصوص عند كبرهما، فالإمام الصادق عليه السلام يقول: « تعليم الطفل منذ الصغر كالنقش على الحجر » هي النظرة بعين العطف والرحمة للوالدين واحترام مشاعرهما والإحسان إليهما، حتى تكبر معه هذه القيم وتبقى راسخة في نفسه، ليتربى فردًا مؤمنًا صالحًا مبدعًا في المجتمع. { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }.
إن تربيتنا لأبنائنا لا يجب أن تكون مجرد كبسولات ضخمة لأرقام ومعلومات علينا أن نحشرها في عقولهم، فالأبناء في هذا الزمن أحوج ما يكون إلى تربية وجدانية يوقظ إحساسهم بالقيم، والحق أننا نحشو أذهان أبنائنا بالكثير من المعارف والمعلومات، ولكننا قلما نحرص على تزويدهم بالتفتّح الوجداني، وليست مهمة المربي اليوم سوى العمل على إبراز أهمية التربية الذهنية على حساب القيم والمبادىء التي لا تجد لها حضورًا في واقع ما يعيشه الأبناء من نواقص وسلوك معقدة، فعالم القيم عميت عنه عيون المربّين !!
نختم بالقول إن الأبناء هم نتاج الدروس والتوجيهات التي تصدر من الأباء والأمهات، وتأثير البيئة التي يعيشون فيها، فرواسب التربية والبيئة تشكل ملامح شخصية الأبناء، لذا نرى أن الوالدين هما المسؤولان عن سلوك أبنائهم وتربيتهم التربية القائمة على الاستقامة والصلاح والمعاملة التي ترضي الخالق سبحانه وتعالى، أعاننا الله على ذلك وهدانا إلى طريق الرشاد بمحمد وآله صلى الله عليهم أجمعين.
« اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي وَلِوالِدَيَّ وَارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيراً، اِجْزِهما بِالاِْحسانِ اِحْساناً وَبِالسَّيِّئاتِ غُفْراناً، اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ الاَْحياءِ مِنْهُمْ وَالاَْمواِت، وَتابِعْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ بِالْخَيْراتِ »
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.
_________
-- إذا أصيب أحد الأبناء بوعكة، أو وخز ابرة، أو كابد عملية جراحية، أسرع والديه بالتعبير عن انفعالاتهما بالشفقة عليه، والسهر على حمايته، بل كره بعضهم الموت، وتمنى الحياة شفقة على أولاده، حتى لا يقعوا فريسة لليتم، وغرضًا لما فيه من ذل وبلاء. فالأبوة إلتزام شديد نحو الأبناء، والأبناء يجشمون آباءهم كل مشقة في سبيل اعاشتهم حتى ليركب الآباء متن الأخطار في سبيل أولادهم، ليضمن قوت عيالهم . فما أقسى الحياة حينما نفتقد فيها النظرة الأبوية التي تصنع جسرًا من الدروس والتوجيهات التي ترأف بنا وتحمينا، وإلى الكلمات التي تؤثر في وجداننا وتتغلغل إلى أعماق نفوسنا.
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق