#خاطرة_الجمعة « أبناء على دروب الحياة »
تحدَّث لي أحد الزملاء الكرام عن مراحل حياته الدراسية والعملية وكيف أنَّ والده كان شغوفًا أن يراه طبيبًا، وحاول كثيرًا أن يحقق رغبة والده بدراسة الطب على غرار ابن فلان الفلاني، لكن هذه الرغبة لم تتحقق، لأحساسه بأن نجاحه في مكان آخر، وبتوفيق الله فتحت للزميل آفاق واسعة، كان قرارًا استراتيجيًا سعى بكل ما يملك من قوة أن يخرج بنجاحات مميزة. أمَّن حياة رغد وعز .. فأصبح بطلًا. نعم مرحلة صعبة ومغزاها أن كل إنسان يتعرض لمواقف في حياته تستدعي منه إتخاذ قرارات حاسمة وقد تكون صعبة .. لكن في حال إتخاذ القرار الصحيح أو المناسب الذي يقود إلى النجاح، سيكون متخذ القرار الناجح بطلًا متميزًا دون شك.
كثير من الآباء صنعوا مستقبل أبنائهم من الألقاب التي أطلقوها عليهم؛ كمناداة أحد الأبناء بالدكتور، والآخر بالمهندس، والثالث بالمحامي والرابع بالشيخ، وهكذا يتشرب أولئك الأبناء الفكرة التي ظل الوالدان يزرعانها في عقول فلذات أكبادهم، فيعيشون طوال مسيرتهم الدراسية على وقع ذلك التوجه . إطلاق مثل تلك الألقاب للأبناء تعطيهم دافعًا ايجابيًا، لكن الجانب السلبي لهذا التوجه هو برمجة سلوك الطفل حتى يكبر، وقد يتعرض لضغوط دراسية ونفسية وفكرية واجتماعية ومادية توقف ذلك التوجه.
يسعى الأهل كي يصبح أبناؤهم مطيعين لهم طاعة عمياء، ولا يضعون غير هذا الهدف لنشاطهم التربوي مع أولادهم وهذا هو الخطأ بعينه. والحق أننا نحشو أذهان أبنائنا بالكثير من الأفكار، ولكننا قلما نخوض معهم في شؤون الحياة المختلفة أو نناقش رغباتهم المستقبلية وميولهم الإيجابية، الرغبة الملحة من الأهل أو ادراكًا منهم لقيمة هذا التوجه أو ذاك العمل، سعيًا وراء رؤيتهم أو رغبتهم في رفع مستوى معيشة أبنهم، وبهذا قد يوفق الشاب وقد لا يوفق كون اتجاهه وميوله إلى نواحي أخرى، وقد يقطع شوطًا طويلًا دون تحقيق أمانيه.
معلوم أن مشوار التفوق والنجاح في أي نشاط إنساني محفوف بمشاق يذللها - بعد عون الله - قدر من الذكاء والموهبة، ثم العزم والثقة والعمل الدؤوب الذي لا يدركه أرق، ولا يحبطه يأس، هما ثمرة التحصيل الجاد والجهد المثابر والعزم الصادق وصولاً إلى الغاية المنشودة.
كلنا لدينا إمكانات وقدرات كامنة واستعدادات فطرية خلقنا بها تختلف من فرد لآخر، كل فرد منا لديه العديد من المزايا والمواهب وأيضا العديد من العيوب .. لكن المهم القدرة على تجاوز التحديات، نعم هناك ما يسمى ببطل الموقف وبطل التوقيت، فكما نعرف جميعًا أنَّ كلًا منا يمرُّ بظرف ما أو موقف معيَّن يجعله أمام خيارات عدة، فإما أن يختار الطريق السليم أو الحل السليم، وإما أن يتخذ الطريق الخطأ. فما الذي يمكننا أن نستنتجه من ذلك؟ تشكل التخصصات العلمية واحدة من معضلات التعليم الجامعي وسوق العمل في وقت واحد، إلا أن التحدي يكمن في مواجهة الميول والرغبات، فهناك تخصصات الأكثر طلبًا في سوق العمل إلا أنها دون مستوى الطموح ولا تحقق الأحلام والرغبات، وهذا يضعف الدافع للعمل والعطاء، الأمر الذي قد يؤدي إلى التهاون في قضايا الناس وعدم المبالاة، وهذا يعتبر خيانة للأمانة، وهو خلاف تعاليم الدين الذي يربي الإنسان على أن يكون جادًا في حياته وعمله، وأن ينظّم أموره بعيدًا عن الفوضى والاسترسال واللامبالاة، كل ذلك يندرج تحت أخلاقيات المهنة " الإخلاص والاستقامة " هذه القيمة التي قلَّما يشار إليها في هذا الزمن كإحدى الصفات اللازمة للعمل الإنساني والإلتزام الأخلاقي . إن قيمة الإنسان هو ما يقدِّمه من جهد وخيرٍ لأهله ومجتمعه وللإنسانية جمعاء، مخلصًا لله في جميع أعماله، وإلا كان في خسارة في دنياه وآخرته، ولذلك خاطبه الله تعالى بقسم عظيم فقال: " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " . حبك للعمل والإخلاص له يؤكد إنسانيتك، نراها على وجوه أكبر عدد من الناس، حينما يقدم لهم أعمق الصور وأصدقها وتطرح عنهم الآلام والمصاعب وتحمل لهم الأماني والآمال.
هذه الحياة التي يحياها الإنسان، إذا لم تحوي غاية وتخطيطًا وهدفًا، وإذا لم يعرف أين يضع فيها أقدامه وأين يتجه، فستصبح حتمًا مليئة بالتعاسة والفشل، ولن يجد نفسه أخيرًا إلا هدفًا للقلق والضياع، وقد يرى أن جهوده التي بذلها خلال دراسته قد أهدرت عبثًا، بدل أن تتجه نحو مثل أعلى يتبلور إلى نهاية وحقيقة ساطعة، هي النجاح والتفوق !!
قد لا يكترث بعض الشباب بميولهم، بل يسقطونها من اعتباراتهم ويفضِّلون مبادلتها باهتمامات خارجية لا تخصهم، كأن يقول أحدهم: " أنا أحب التدريس، ولكني أريد أن أجني الكثير من المال، سأعمل في قطاع آخر ، وأبذل قصارى جهدي في كسب المال " مثل هذا التفكير يجعل صاحبه يكتشف بعد فوات الأوان أنه اتخذ مسارًا خاطئًا وغير طبيعي في الحياة، فعندما تفصل بين ميولك وعملك، تقل جاذبيته، فيخبو نشاطك، لأنك تؤدي دورًا لم تُخلق له، وشيئًا فشيئًا، تفقد إدراكك لهويتك وإمكاناتك الحقيقية، وتشعر بالألم في داخلك، وتنسى جوهر شخصيتك .
-- وأخيرًا، في كل عصر وجيل يتحدد مصير الأبناء، وهذا معناه أن على الوالدين أن يراعيا في تربيتهما لولدهما ميوله ورغباته المستقبلية، مع تنمية روح الصدق والأمانة والإخلاص، مثل هذه الغرسات الطيبة ستساعد الشاب على أن يثق بنفسه ويكتسب شخصيته المستقلة التي تتمتع وبالإحترام والثقة من قبل الآخرين، وعليه إذن يتحدد نجاحه أو فشله في معترك الحياة.
والنظرة السليمة إلى ميدان العمل لا يكون إلا بالاستقامة بمعناها الأخلاقي، فعندما يتخلى طبيب أو مهندس أو محامي عن عنصر الاستقامة .. ألقى نفسه بعلمه ومعارفه في متاهات لا يستطيع الخروج منها. فالإستقامة هي المقياس الأول والأخير للعمل، فلا عمل إن لم يكن مقرونًا برضا الله ثمرة النجاح والتفوق .
-- اللهم أرحم من توسدت أجسادهم الاكفان، وأجعل قبورهم خير مسكن تغفو به أعينهم حتى تقوم الساعة وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، والصلاة والسلام على المصطفى نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.
_________
-- وفي الحقيقة، يخطىء أولئك الآباء حين يحصرون خيار مستقبل أبنائهم في تخصّص حسب رغبتهم، ويترتب على ذلك أن يستسلم الأبن لرغبة والده؛ ليجد الشاب نفسه فيما بعد عالة على نفسه وعلى وليّه ومجتمعه، إذن، فالمسؤولية مسؤولية الآباء، والقول بغير هذا من تأويل الأحاديث !!
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق