#خاطرة_الجمعة « عزة النفس »
أنت تشعر بالذل أمام الناس ويقض هذا الشعور مضجعك، حول هذا الجانب المهم جانب الذل والعز والمقاييس الربّانية والدنيوية؛ سيكون حديثنا.
كثيرون أولئك الذين يفهمون من عزة النفس معنى الكبرياء، وهي نظرة خاطئة ترسل من غير تدبر، عزة النفس ترفعها عن الدنايا والنقائص.
ويقول الإمام محمد الجواد عليه السلام « عِزُّ المُؤْمِنِ غِنَاهُ عَنْ النّاسِ ».
ما يفتخر به البعض بقوله: « جاءني فلان، فقلت له كلمة أصفر لها وجهه » لا شك أن من يرتاح من إراقة ماء وجه الآخرين هو بعيد عن الإنسانية.
حينما يشدّد المشرّع الإسلامي على ظاهرة ( العز )، فإن هذا التشدّد يعني أن الشخصية الإسلامية بحكم موقعها من السماء، ونفض يدها عن الآخرين، تتحسّس بقيمتها بنحو لا تسمح لنفسها بأي تعامل ( مُذلّ ) يحط من قيمتها أمام الآخرين.
ثمة فرد فقير، وحاجته الكبيرة للعون والمساعدة، لا مناص من إشباع حاجته، وسنفترض أن إشباع حاجته منحصر في الذهاب إلى أحد الوجهاء أو الأعيان المعروفين في المجتمع بالعطاء وقضاء حاجات الناس، هم الذين يمتلكون وسائل الإشباع، غير أن التواصل مع تلك الشخصيات يتم في حالات كثيرة عبر تنازل وذهاب ماء الوجه وخضوع يتعارض أساسًا مع الدافع إلى تقدير الذات وفي أفضل الحالات، فإن الإحساس بأن الآخرين ذوو منّة وفضل عليه، كافٍ لتوتير شخصيّته وتأزيمها، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الآخرين وهم مرضى في الغالب، سيشيرون ذات يوم إليه، من خلال التعالي أو الزهو الإجتماعي أو الغمز أو التعبير، بأنهم متفضّلون عليه.
لا يجوز لأي شخص أن يريق ماء وجه إنسان، لأن كرامته ليست ملكًا من أملاكه، بل هي ملك الله ولا يجوز له التنازل عنها، فكيف به وهو يريق ماء وجه أخيه؟. إن نصوص أهل البيت عليهم السلام تشدّد على ظاهرة ( العز ) مؤكدة أن المؤمن عزيز .. عزيز النفس عالي الهمة، لديه القدرة على الصبر والتحمل ويدعو ربه بإخلاص أن يقضي حاجته بخفاء، ولديه حساسية شديدة في طلب العون والمساعدة من إنسان. وفي ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: « أن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلًا » فروع الكافي، الحديث ١. ويقول: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه " وسأله الراوي عن معنى إذلال لنفسه فقال: " يدخل فيما يعتذر منه " فروع الكافي الحديث ٥ .
التعدي وإذلال المؤمن وتعريض كرامته إلى الانتقاص، يعني إهانته .. فإن هذا بعيد عن الإنسانية، لا يجوز لك أن تؤذي مشاعره، وتريق ماء وجهه أمام الأخرين، فإن ذلك يصنع جرحًا غابرًا لا يندمل بسهولة..
وممَّا لا شك فيه أنَّ رفض الذل لا يعني بحثًا عن تقدير إجتماعي، بل يعني إحساس الشخصية بكيانها واستقلالها، هو إحساس صحّي صرف.
حدث ذات مرة أنه جاء فقير إلى الإمام عليّ عليه السلام، وطلب منه شيئًا لقضاء حوائجه فأعطاه الإمام ما طلبه، ثم بكى، فتعجب الأصحاب من ذلك، وتساءلوا: ما الداعي إلى البكاء؟ فقال لهم الإمام: أبكي لأنه أراق ماء وجهه باضطراره إلى السؤال. ثم أردف قائلًا: أخاف أن لا يكون لي أجر عند الله، لأن الأجر تسلمته مقابل إراقة ماء وجهه.
كم من الأسر المتعففة تئنّ تحت وطأة ضغط الحياة وقسوة الأيام، ضاقت بهم سبل العيش، ولم يجدوا ما يقتاتون به، فقد أصبحوا يألمون من قلة ما في جيوبهم، والتي اعتصرت قلوبهم، ولا أحد يعرف شيئًا عن أوضاعهم الصعبة إلا في النذر القليل . فهم أناسًا يعانون من ضيق ذات اليد، لكنهم لن يعرضوا عزّتهم لذل الحاجة، فماذا يصنعون؟
المؤمن عزيز يرفض الذل أو يمد يده لطلب العون والمساعدة، ويستطيع أن يعيش على خبزة خالية يأكلها، ويستطيع أن يلبس ثوبًا واحدًا، وإذا احتاج إلى شيء آخر استدان مبلغًا من المال من أحد اصدقائه ليقضي حاجته، لكن .. لكن حينما يتم ذلك على حساب خدش لكرامتة؛ فإن تبعات هذا الذل تخلق في نفس المؤمن مشاعر وأحاسيس دونيّة ونقص لديه وما يستجره من توتّر وتمزّق وصراع وضغوط قاسية.
وقد يكون من أصعب المواقف على المؤمن أن يعرف حاجته شخص آخر، إذ أن شخصية المؤمن تعتمد قبل كل شيء على كرامته، بالتالي كل ما يقدمه صاحب العطاء ويظهره أمام الآخرين، يسبب إراقة ماء وجه المؤمن، إنها أمور تسيء إلى شريحة مهمة من مجتمعنا، فليتنا نعيد النظر في تعاملنا مع طالب العون والمساعدة، وأن لا نعرض عزة المؤمن لذل الحاجة، هم ليسوا بحاجة إلى إحساننا عندما يساء إليهم.
هناك من الناس شغله الشاغل جرح سمعة الآخرين والإساءة إلى كرامتهم وكشف اسرارهم، لا شيء يمر أمامه دون أن يطال لسانه الجارح لهؤلاء الناس، هو في المجالس مستعد للخوض والحديث بكل وقاحة في أمور تصب في تمنن وأذى الناس. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي ينبغي فعله إزاء إخواننا المؤمنين؟ أن نستر عليهم ونحترم مشاعرهم، ونحمي ذواتهم الروحية من الأذى، عن مولانا باقر علوم النبيين عليه السلام: " يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة ".
«اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَصُولُ بِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وأَسْأَلُكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وأَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ عِنْدَ الْمَسْكَنَةِ، ولَا تَفْتِنِّي بِالاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِكَ إِذَا اضْطُرِرْتُ، ولَا بِالْخُضُوعِ لِسُؤَالِ غَيْرِكَ إِذَا افْتَقَرْتُ ..» الصحيفة السجادية، دعاء مكارم الأخلاق رقم ٢٤. هذه هي توصية السماء، نفض اليد عن الآخرين تمامًا، والاتجاه إلى السماء في إشباع الحاجة.
ندعو الله جل وعلا أن يبارك في أرزاقنا، وأن يكفنا شر أنفسنا، والسعادة من نصيبنا، ويبعد عنا مايكدر خاطرنا، والشفاء العاجل لمرضانا، والرحمة والغفران لموتانا وموتى المؤمنين والمؤمنات بحق محمد وآله الأطهار .
~ مأجورين مثابين ~
_________
-- رغم فقرك وحاجتك الكبيرة للعون والمساعدة إلا أن هناك امتيازات في شخصيتك أخي المؤمن تتصل بكرامتك وشعورك بذاتك وإنك أكرم من أن تمس شخصيتك بنحو إسقاط نفسك من أعين الناس. هذا الشعور يسمو بك إلى العزة .. العزة الحقيقية الإلهية .. هي صحبة عباد الله .
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق