✍️ تحت هذا العنوان يترسخ المفهوم القائل: لماذا يتكبر الإنسان إذا كان كبيرًا في نفسه، ولماذا يتعاظم إذا كان عظيمًا في صفاته، أنه ـ من دون شك ـ يجد في نفسه نقصًا محسوسًا، ويريد أن يتم ذلك النقص ويسد ذلك الفراغ بهذه العظمة المكذوبة، ولكنه بعمله هذا يضيف إلى نقصه الأول نقصًا أكبر منه، وإذا كان حب الذات يحجب عينيه عن أن تبصر شيئًا من ذلك فإن للناس الآخرين عيونًا غير محجوبة. ولعل في الضعفاء والبسطاء والمساكين الذين يترفع عن القرب منهم ويأنف من النظر إلى أسمالهم من هو أشرف منه نفسًا وأزكى عملًا وأطيب ذكرًا.
لقد بينت الكثير من الآيات في القرآن الكريم، كما بينت الكثير من الأحاديث الشريفة مدى خطورة التكبر، ومدى بغض الله للمتكبرين يقول الله سبحانه وتعالى:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [سورة لقمان، الآية:١٨ ]، ويتحدث الإمام الصادق عن المتكبر أيضًا فيقول: " لا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس" (الكافي الحديث ١٦ باب الكبر).
شهوة التمايز والنظرة المتعالية والغطرسة .. تفرز سلوكيات وممارسات ومواقف وماديات تناقض قيمة الإنسان وكرامته، وهي ثقافة طاغية فرضت وجودها في مجتمعاتنا. فالفرد منا يطمع إلى أن يعرّف نفسه من منطلق التميز والتعالي، يتبجح بنسبه أو شهاداته أو ألقابه أو موقعه أو شهرته أو أعماله أو أشغاله ومردودها على المجتمع، وعلى الأغلب لا يستطيع ذلك، لأن حجم دوره هناك معروف للجميع. ولا حديث له إلا التباهي بإمكاناته ومنجزاته وامتيازاته الشخصية ويتعامل مع الآخرين على أنهم في المستويات الأدنى منهم بكثير. فهو لا يملك شيئًا يمنحه وجودًا سوى تلك النزعة المتعالية التي يرى فيها الأفضلية وترفضها مكارمُ الأخلاق وتفسد العلاقات بين الناس، فيتعالى على الناس ويحتقرهم ويتعامل معهم بفوقيّة، ظانًا أنه الأفضل والأحسن. وقد غاب عنه أن أفضل العمل العبادة والتواضع هما العزة الحقيقية الإلهية، وليس بعلو النَّسَبَ والشهادة العالية التي قد تخفي وراءها اشخاصًا سيرتهم غير ذلك. فمن المؤلم جدًا أن نجد مثل هؤلاء داخل مجتمعنا أعتادوا أسلوب التمييز في تعاملهم مع الآخرين.
وعكس التكبر التواضع ومعناه، لين الجانب وحسن الخلق وعدم الترفع في تعاملهم مع الناس.
من أبرز أخلاق العلماء تواضعهم، فإذا رأيت فيهم مغرورًا متكبرًا، فثق بأن عنده من الجهل بقدر ما عنده من الكبر والغرور. وكثير من الذين انحرفوا، وكثير من الذين شقوا، المشكلة التي كانت عندهم ليست مشكلة قلة العلم والمعرفة وإنما هي مرض النفس. فالنفس إذا كانت مصابة بالتكبر وداء العجب وما أشبه، فكل شيء لا يفيد. يقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام: " إياك والكبر والاستطالة بعلمك فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك ". (تحف العقول: ص٢٩٧).
وللتواضع حدودًا لا يجب تجاوزها فالمسايرة في كل الظروف وعلى حساب الكرامة لا تعد تواضعًا.
أن العزة شيء يجب أن يحرص عليه دائمًا من يريد أن يعيش عزيزًا، وأن من تهاون في عزته وكرامة نفسه انتهى به الأمر إلى الهوان المطلق ولا يحس بعد ذلك بالمذلّة.
حينما يشدّد المشرع الإسلامي على ظاهرة " العز "، فإن هذا التشدّد لا يعني البحث عن " التقدير الاجتماعي " فالمؤمن بحكم ارتباطه بالله تبارك وتعالى، ونقض يده عن الآخرين، يتحسس بقيمته بنحو لا يسمح لنفسه بأي تعامل " مُذلّ " يحط من قيمته أمام الأخرين .
من هنا فإن الإمام زين العابدين عليه السلام حينما يخاطب الله سبحانه وتعالى: " وأعزَّني ولا تفتنِّي بالكبر " (الصحيفة السجادية. دعاء مكارم الأخلاق - رقم ٢٤) . إنَّما يفصل بين المطالبة بالعز والكبر، بصفة أن " التكبّر مفصح عن الدافع إلى السيطرة والتفوق وهو ظاهرة مرضية تنخر المجتمع حتى تهدّه، بينما يظل " العز " مفصحًا عن تقدير الذات ليس بنحو مَرَضي - بل بنحوها الصحي المرتبط بالله من جانب، وبعدم السماح للذات بأن تقع في مهاوي الذل الاجتماعي من جانب آخر.
- اللهم بحق قدسية يوم الجمعة، ليلتهاغرّاء ويومها يوم أزهر نسأله من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الرزق والرحمة والغفران لموتانا وموتى المؤمنين إلى جنات الخلد والنعيم مع الطيبين الأطهار .
طابت جمعتكم بالصلاة على محمد وآل محمد.
_________
- التفاخر " المباهاة " هو نوع من أنماط هيبة الفارق " التعالي " ويعتبر أكثر ضررًا وخطورة على العلاقات الاجتماعية، فمن المعروف أن كل فرد له دوره وواجباته تجاه مجتمعه، لكن أفراد هذا النمط يعتبرون أنفسهم الأكثر أهمية في هذا المجتمع، ويحاولون إبراز ذلك في كل شاردة وواردة في سلوكهم أمام الآخرين من حولهم.
محبكم/ منصور الصلبوخ.
تعليقات
إرسال تعليق