محاضرات الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة / الحسن والقبح وتحديات القيم السائلة

 


محاضرات الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة 

ليلة 12 من محرم لسنة 1445هـ

الحسن والقبح وتحديات القيم السائلة

🖋️🖌️فريق صدى المنبر

🖌️تحرير: حكيمة آل حماد

————————————

قال تعالى:

✅﴿ وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ۝٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ﴾ [الشمس 7-8]

📌انطلاقا من الآيتين المباركتين نتحدث عن  الحسن والقبح وتحديات القيم السائلة ضمن ثلاثة محاور:

1️⃣ 1- نتعرف على نظرية الحسن والقبح، وهي من النظريات الكلامية المشهورة والمعروفة. 

22️⃣-نتحدث عن ثبات الحسن والقبح، هل نظرية الحسن والقبح تطرح حسنا وقبحا ثابتين أو متغيرين؟.

 33️⃣-نقف مع مشهد حداثي ضمن حركة القيم الإنسانية السائلة ومواجهتها لنظرية الحسن والقبح.


1️⃣المحور الأول:

 🔹من المسائل الكلامية التي أثيرت في الأوساط الإسلامية منذ نهايات القرن الأول الهجري وبدايات القرن الثاني مسألة الحسن والقبح، فطرح تساؤل بين الفرق الإسلامية؛ هل الإيمان بحسن وقبح الشيء أمر يعود إلى العقل أو يعود إلى الشرع؟، هل الحسن والقبح شرعيان أم عقليان؟، 

🔺وهنا انقسمت الفرق الإسلامية إلى رأيين واضحين في المسألة؛ الرأي الأول تبناه الأشاعرة، والرأي الثاني تبناه العدلية الذين هم الإمامية والمعتزلة.

🔺 يرى الأشاعرة أن الحسن والقبح أمران شرعيان، فالحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه الشارع، ولو أن الله سبحانه وتعالى أدخل يوم القيامة إنسانا معصوما كنبي من الأنبياء إلى النار لكان ذلك حسنا؛ لأن الله فعله، ولو أنه أدخل ظالما فاجرا قاتلا للنفس المحترمة مصرا على ذنبه وجرمه وظلمه الجنة لكان ذلك أيضا حسنة؛ لأن الله فعله. 

🔺بينما الرأي الآخر الذي يطرحه العدلية وهم الإمامية والمعتزلة -سموا الإمامية والمعتزلة بالعدلية لأنهم أبرزوا أصلا من أصول الدين وهو العدل الإلهي، وهو يرتكز على هذه النظرية، ومنشأ تسمية الإمامية والمعتزلة بالعقلية لأنهم أسسوا للعدل الإلهي واعتمدوا في نظرية الحسن والقبح على حكم العقل-أن الحسن والقبح أمران عقليان، 

💫يؤمن العقل بحسن بعض الأشياء وقبح بعض الأشياء الأخرى؛ يرى العقل أن العدل حسن وأن الظلم قبيح بغض النظر عن حكم الشارع بحسن العدل وقبح الظلم، فالعقل بمعزل عن التشريعات يؤمن بحسن بعض الأمور وقبح البعض الآخر. 

🔺طرح كل فريق من هذين الفريقين أدلة على رأيه؛الأشاعرة مثلا قالوا لو كان الحسن والقبح عقليين لما اختلفنا معكم، لماذا نقول أنهما شرعيان بينما أنتم تقولون بأنهما عقليان؟ لو كانت المسألة بهذا الوضوح الذي تدعون لما اختلفنا معكم، ونحن نرى أن هناك فرقا بين إدراك العقل أن الكل أعظم من الجزء، وبين إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم، هناك فارق بين الإدراكين، 

القضايا العقلية هي التي من قبيل أن الكل أعظم من الجزء من القضايا البديهية التي لا يختلف عليها العقلاء، أما هذه القضية هي محل اختلاف بيننا وبينكم.

📌 هكذا قال الأشاعرة، فأجابهم العدلية بأن هذا الاستدلال الذي ذكرتموه يرتكز على مغالطة.

🔸 الجواب الأول من جواب الخواجة نصير الدين الطوسي عليه الرحمة والرضوان:

 🌟من قال لكم بأن القضايا العقلية كلها على مستوى واحد من الوضوح؟ ذكرعلماء المعقول وعلماء المنطق بأن البديهيات العقلية على مراتب: هناك الأوليات وهناك الفطريات وهناك التجريبيات وهناك المتواترات وهناك المشهورات وهناك الحدسيات. الأوليات أوضح بكثير من الحدسيات وأوضح بكثير من المشهورات وأوضح من المتواترات، لكن هذا لا يعني أن القضية إذا لم تكن بنفس درجة وضوح الأوليات التي مثلتم بها (الكل أعظم من الجزء) فمعنى ذلك أن القضية ليست عقلية.

 ا🔸لجواب الآخر على هذا الدليل ما ذكره الشيخ المظفر عليه الرحمة في أصوله، قال: يظهر أن الأشاعرة خلطوا بين حكم العقل النظري وحكم العقل العملي، قضية حسن العدل وقبح الظلم هذه ترتكز على أحكام العقل العملي، بينما الكل أعظم من الجزء هذه من أحكام العقل النظري، وهناك فرق بين أحكام العقل العملي وأحكام العقل النظري، أحكام العقل النظري دائما تكون أشد وضوحا من أحكام العقل العملي،  ولكن عدم وضوح أحكام العقل العملي لا يصيّرها شرعية تبقى أحكاما عقلية وإن كانت أقل وضوحا من أحكام العقل النظري، 

ولقد قال علماء المنطق بأن العقلاء أحيانا يقعون في شبهة في موضوع البديهيات، أفلا يمكن أن يقع هؤلاء-الذين قالوا بأن الحسن والقبح أمران  شرعيان-  في شبهة أيضا. فهل يمكن للعقل أن يرى أن الله سبحانه وتعالى -لو أدخل نبيا معصوما النار في يوم القيامة - لكان ذلك حسنا؟! ولو أدخل ظالما متغطرسا جبارا قاتلا الجنة لكان ذلك حسنا؟!، 

من الواضح أن هذا التصور قائم على شبهة في قبال أمر عقلي واضح بل وبديهي.

🟩 أدلة العدلية لإثبات أن الحسن والقبح أمران عقليان:

1️⃣الدليل الأول :

لو كانت مسألة الحسن والقبح تعود إلى الشرع وإلى التشريعات الأديانية الإلهية لما وجدنا أقواما لا يؤمنون بدين ولا توجد عندهم شرائع يدركون بأن العدل حسن و الظلم قبيح. 

💫فلو سألت ملحدا لا يؤمن بشريعة ولا يؤمن بدين: هل  ترى أن العدل أمر حسن و الظلم أمر قبيح؟ سيجبيك بأن العدل حسن وبأن الظلم قبيح. إذن الدليل الأول الذي يستند عليه العدلية أن مسألة الحسن والقبح المصدر فيها ليس التشريع، بدليل وجود مجتمعات لا تؤمن بالأديان ولا تؤمن بالتشريعات ومع ذلك يرون حسن العدل وقبح الظلم.

 2️⃣الدليل الثاني 

لو قلنا بأن الحسن والقبح أمران شرعيان للزم  من ذلك أن ينسد علينا باب دعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى،وهذا لا يلتزم به الأشاعرة، فإذا كانت مسألة الحسن والقبح ليست عقلية فكيف تدعو من لا يؤمن بوجود الله وبوحدانيته وبضرورة الإيمان والطاعة لله تعالى إلى الإيمان بالله؟؛ 

لأن من القضايا الأساسية التي من خلالها نلزم غير المؤمن بالله أن يؤمن بالله قضية عقلية ترتكز على مسألة الحسن والقبح، هل نقول له: ألا تحتمل أنك إذا لم تؤمن بوجود الله ولم تؤمن باليوم الآخر ستتعرض يوم القيامة للعقوبة؟  فإذا أجاب بنعم، نقول له:

  💥يحكم العقل بأن درء الضرر المحتمل أمر واجب،  وعدم درء الضرر المحتمل أمر قبيح، ومن هنا نلزمهم بضرورة أن يبحثوا ويؤمنوا بالله تعالى، بل وأكثر من ذلك لو قلنا بأن مسألة الحسن والقبح شرعية وليست عقلية لما أمكننا إثبات صحة النبوات؛ لأننا نقول أن الله سبحانه وتعالى لو أيد شخصا كاذبا بالمعجزة لكان هذا أمر قبيح، وبالتالي متى ما أيد الله شخصا يدعي النبوة بالمعجزة فنقول هذا نبي وإلا لم يؤيده الله؛ لأن الله لا يمكن أن يؤيد الكاذبين ؛ لأن العقل يحكم بقبح تأييد الكاذب، 

فالإيمان بنبوة الأنبياء قائمة على مسألة الحسن والقبح، قبح تأييد الكاذب بالمعجزة وبالتالي فأي نبي يؤيده الله بالمعجزة نؤمن بنبوته؛ لأننا نقول أن  الله حكيم ولا يمكن أن يصدر منه القبيح ولا يمكن أن يؤيد الكاذب بالمعجزة، فما دام قد أيد هذا بمعجزة فهو نبي صدق، ولذلك نؤمن بنبوته.

 🌟إذن الإيمان بالنبوات قائم على كون الحسن والقبح أمران عقليان وليس شرعيين، وأن نظرية العدلية الذين هم الإمامية وتابعهم في ذلك المعتزلة هي النظرية الصحيحة،، 

ويأتي الشارع المقدس يؤيد حكم العقل، فيقول كما اعتقدت عقولكم بأن الظلم قبيح والعدل حسن أنا أيضا أحكم بأن الظلم قبيح والعدل حسن؛ فالحكم بالحسن والقبح هو حكم عقلي والحكم الشرعي مجرد مؤيد لحكم العقل،وهذا ما تشير إليه الآية المباركة:

✅﴿ وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا ۝٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ﴾؛أي جعل من ضمن الأمور الملهمة للنفس الإنسانية معرفة الفجور والقبح ومعرفة التقوى والحسن. 

2️⃣المحور الثاني.

 يطرح اليوم هذا التساؤل: هل مسألة الحسن والقبح - بعد أن سلمنا بأنها قضية عقلية - قضية ثابتة أم يمكن أن تتغير مع مرور الزمن؟.

 💫هل يمكن للمجتمع العقلائي أن يؤمن بحسن مبدأ أو أمر ما، ثم مع مرور الأجيال وتغير الثقافات يتحول هذا الشيء الحسن إلى شيء قبيح؟ هذا سؤال في غاية الأهمية.

🔹يقسم علماء الكلام الحسن والقبح أو الأمور الحسنة والقبيحة إلى ثلاثة أقسام:

 1️⃣القسم الأول:

 ما يكون الشيء فيه علة تامة للحسن والقبح؛ أي لا ينفك عنه وهذا مثاله الظلم والعدل.

الظلم بأصله علة تامة للقبح، فمتى ما رأى العقل ظلما يحكم بأنه قبيح، ومتى ما رأى العقل عدلا يحكم بأنه حسن، ولذلك لا يمكن لهذا القسم من الحسن والقبح أن يتبدل على مر العصور والأزمنة أبدا منذ الرجل البدائي الذي كان يعيش في الكهوف إلى رجل العصر الحديث، فكل عاقل يؤمن بأن الظلم قبيح وبأن العدل حسن، حتى الظالم نفسه إذا مارس الظلم فإنه يدرك في قرارة نفسه أن الظلم قبيح. 

2️⃣القسم الثاني:

 ما كان اقتضاء الحسن والقبح موجود فيه، شي يكون مقتضي الحسن أو مقتضي القبح موجود فيه لكن قد يطرأ عليه أمر يجعله متغيرا.

 💫الصدق مقتضي الحسن فيه، فلو خلي الصدق وطبعه لكان دائما حسنا، لكن أحيانا يعرض على الصدق أمر ما يصيّره غير حسن، مثال ذلك:

💫 لو كانت هناك مجموعة من الأعداء يحملون الأسلحة يريدون قتل إنسان مؤمن بريء، وهذا الإنسان المؤمن يتخفى خلف المنبر، فسألوك هل هو موجود هنا؟ فإن صدقتهم وقلت لهم نعم هو موجود سيقتلونه، وإن كذبت وقلت غيرموجود سينجو من قتل وظلم شنيع، فهنا العقل يحكم بأن الصدق في هذا المورد ليس حسنا، والكذب يصبح حسنا مع أن الكذب في حد ذاته فيه مقتضي القبح، الكذب لو خلي وطبعه لكان قبيحا، لكن طروء عنوان حفظ النفس المحترمة وحفظ روح هذا المؤمن يصيّر الكذب في مثل هذه الحالة أمرا حسنا، 

💫وهذا يفسر لنا في الروايات وفي الأدبيات الإسلامية أن الكذب أحيانا يصبح له وجه حسن؛ كما لو كان من أجل إصلاح ذات البين،كإصلاح بين أخوين شقيقين بينهما خصومات لسنوات، يجيز الشارع لك في مثل هذه الحال أن تكذب من أجل الإصلاح بينهما.

3️⃣القسم الثالث:

 ما كان خاليا من الاقتضاء؛ أي لايوجد مقتضي الحسن ولا مقتضي القبح، فقد يطرأ عليه عنوان يصيّره حسنا، وقد يطرأ عليه عنوان يصيّره قبيحا، مثال ذلك شرب الماء؛ 

فشرب الماء في حد ذاته خال من المِلاك، قد يكون في مورد حسن، وقد يكون في مورد قبيح، في مورد العطش يصبح حسنا، وفي مورد الممتلئ المؤدي للضرر يصبح شرب الماء مذموما وغير حسن.

 🔸فإذن القسم الثالث من الأفعال ما يكون محايدا؛ قد يطرأ عليه الحسن وقد يطرأ عليه القبح.

 🌟المهم في نظرية الحسن والقبح القسم الأول، وهو الذي يقع عليه النزاع اليوم عند بعض الحداثيين حينما يثيرون هذا التساؤل: هل يمكن أن يتغير الحسن والقبح ؟ فنجيب بلا؛  لأن حديثنا في نظرية الحسن والقبح ترتكز بالدرجة الأولى على القسم الأول، حتى الصدق الذي حكمنا عليه في بعض الموارد بأنه قبيح؛ لأنه يصبح في مورد ما ظلما، والكذب الذي حكمنا عليه في بعض الموارد أنه حسن لأنه يصبح في مورد ما مصداقا من مصاديق العدل. 

📌الصنف الثاني والصنف الثالث يأولان إلى الصنف الأول، الأرضية الأساسية التي تنطلق منها قاعدة الحسن والقبح هي القسم الأول حسن العدل وقبح الظلم؛ ولذلك قالوا عن العدل بأنه وضع الشيء فيه موضعه الصحيح، 

فحينما تكذب لأجل حفظ المؤمن الذي قد يقتله الأعداء يكون سلوكك مصداقا للعدل فيصبح حسنا، ومن هنا نقول بأن مسألة حسن العدل وقبح الظلم قضية راسخة لا يمكن أن تتغير على الإطلاق، فرجل القرن البدائي يؤمن بحسن العدل وقبح الظلم، ورجل القرن الواحد والعشرين وما بعده سيؤمن بأن العدل حسن والظلم قبيح، وسيؤمن بأن أداء الأمانة حسن والخيانة قبيحة، 

وهكذا تبقى القضايا الأساسية في مسألة الحسن والقبح ثابتة لا يمكن أن تتغير.

 🔹ومن هنا طرح العلماء في مسألة الحسن والقبح سؤالا مهما :

 هل أن الحسن والقبح قضية عقلية أم قضية عقلائية؟.

💥 القضية العقلية التي يكون المرجع فيها هو محض العقل، أما القضية العقلائية هي القضايا التي يؤسسها العقلاء لحفظ مجتمعهم العقلائي، ترى مثلا العقلاء إذا اجتمعوا في مكان ما يضعون لهم ضوابط وأنظمة كنظام مروري ونظام اجتماعي ونظام قانوني من أجل حفظ النظام، هذه القضايا التي يبتكرها العقلاء لأجل حفظ أنظمتهم تسمى قضايا عقلائية، 

💫ومن هنا طرح هذا السؤال هل أن مسألة الحسن والقبح هي عقلية بمعنى أنها حكم عقلي محض أم أنها عقلائية يعني مما اتفق العقلاء عليها؟.

 🔺إن كانت من الصنف الثاني   فيصبح ثباتها غير مضمون، أما إذا كانت من الصنف الأول فتصبح القضية أكثر ثباتا ورسوخا. 

📝علماء الأصول قالوا إن قضية الحسن والقبح قضية عقلية محضة وليست عقلائية.

 🔹بعض الفلاسفة كالعلامه الطباطبائي عليه الرحمة في الميزان قال أنها من القضايا العقلائية؛ لأنها من أحكام العقل ما بعد الاجتماع؛ الإنسان قبل أن يختلط بأخيه الإنسان لم يكن يلتفت إلى هذه القضايا، فرجل يعيش في كهف لوحده لا يخطر في باله أن العدل حسن والظلم قبيح، ولكن إذا اجتمع بأخيه الإنسان وتشكل مجتمع عقلائي وصارت العلاقات قائمة هنا يفكر العاقل بأنه إذا لم نضع هذه الضابطة سيسود الظلم،  

فإذن منشأ حكم العقل الاختلاط والعلاقات الاجتماعية فيحكم العقلاء بقبح الظلم وحسن العدل من أجل تنظيم حياتهم الاجتماعية. 

🔹في المقابل يذهب جل الأصوليين إلى أنها قضية عقلية بحتة، يقول الشهيد الصدر عليه الرحمة: هذه المسألة تعود إلى الكمالات حتى قبل أن يخالط الإنسان بني الإنسان، هو يعيش في كهف لوحده،لكن إذا تأمل في قضية العدل يرى أنها كمال للنفس الإنسانية، ويرى بأن الظلم نقص وعيب يعتور النفس الإنسانية، 

فإذن حكم العقل المحض- بغض النظر عن الاجتماع وبغض النظر عن نشأة المجتمعات- أن العدل حسن وأن الظلم قبيح، ولذلك يطرحون إشكالا على رأي العلامة الطباطبائي؛ لو لم تكن القضية عقلية وترجع إلى جذور عقلية محضة، فلماذا اتفق جميع العقلاء بعد اجتماعهم على حسن العدل وقبح الظلم؟ لو كانت القضية ترجع إلى الاعتبارات العقلائية وما يتواطأ ويتفق عليه العقلاء لرأينا على الأقل ولو في مجتمع عقلائي واحد أنهم تواطئوا على حيادية العدل، لكننا نرى كل المجتمعات العقلائية متفقة على حسن العدل وقبح الظلم، مما يعني أن القضية ترجع إلى جذور عقلية محضة.

 🌟فإذن مسألة الحسن والقبح مسألة عقلية وليست عقلائية، وأنها مسألة راسخة لا تقبل التغيير وهي باقية وثابتة ما بقي الإنسان على وجه هذه البسيطة، وهذا هو ما يذهب إليه الأديانيون والعقلاء جميعا. 

3️⃣المحور الثالث.

 نثير فيه قضية سيولة القيم والمبادئ التي يؤمن بها المجتمع الحداثي المعاصر، ونستعين فيها بمن استعنا به من قبل، وهو المفكر البولندي (زيجمونت باومان)،  توفي  في يناير 2017، ويعد من أهم نقاد الفكر الحداثي، ويعبر عنه بعض الكتاب المعاصرين المهتمين بهذا الشأن بأنه فقيه الحداثة،

فهو من أكثر من تحدث عن الحداثة بفاعلية وبفطنة وبدقة وبفهم عميق، وخصوصا حينما تقرأ كتابه الحداثة السائلة تجد أطروحاته وإثاراته عميقة جدا حول الفكر الحداثي،وهذا يجعلنا  نهتم بآراء هذا المفكر.

📝 أكد هذا المفكر على سيولة القيم والمبادئ الحداثية المعاصرة، وطرح سلسلة من المؤلفات تحمل عنوان السائلة، يطلق عليها البعض مجموعة السيولة، ثمانية كتب كلها تحمل عنوان السائلة:

1- الحداثة السائلة     2- الحياة السائلة

 3-الخوف السائل     - الشر السائل، أو العيش في زمن اللا بديل 

5- الرقابة السائلة     6-الأزمنة السائلة أو يسميها العيش في زمن اللايقين 

7-الحب السائل      8- القيم الأخلاقية في عصر الحداثة السائلة

 هذه ثمانية كتب تحمل عنوان السائلة، 

وله كتابان آخران هما: الحرية والحداثة وقضية الهولوكست. 

جملة كتبه كلها في الحقيقة مهمة فيما يرتبط بهذا الجانب، وهذه أهم الكتب التي ترجمت إلى اللغة العربية، 

💫فمن خلال هذه السلسلة يؤكد على قضية مهمة وهي قضية سيولة القيم والمبادئ. الأسلوب الذي يغلب على كتابات هذا المفكر هو الأسلوب السياسي، فالمقاربات في أغلب كتبه تأخذ طابعا سياسيا حتى في تعريفه للسيولة عندما يتكلم عن الحداثة السائلة. 

🔹يعطي لتعريف السيولة تعريفا يتصل بالنظرة السياسية التي تغلب على كتاباته، وهو يؤمن بمذهب نقدي يسميه المذهب المادي الاستهلاكي يقارب به كثيرا من أطروحاته، ويعرف السيولة-سواءا حينما نتحدث عن الحداثة أو نتحدث عن الشر أو نتحدث عن الخوف أو نتحدث عن الحب -السيولة تعني الانفصال بين القدرة والسياسة؛ الانفصال بين قدرتنا على فعل الأشياء وبين ما يجب علينا أن نفعله من الأشياء.

🔸 يقول: إن المجتمع الحداثي يفصل بين أمرين؛ بين ما يستطيع أن يعمله وبين ما يجب عليه أن يعمله، يؤمن ببعض الأشياء لكن على مستوى العمل لا ينفذها. آلت الحداثة السائلة في نهاية المطاف إلى التضحية بكثير من القيم والمبادئ التي انطلق منها الفكر الحداثي في عصر الحداثة. 

💥ما نريد أن نستعيره من كلمات هذا المفكر جانبين مهمين يرتبطان ببحثنا حول الحسن والقبح :

1️⃣الجانب الأول

 يطرح في مقدمة كتابه الشر السائل قضية جدا مهمة يمكن أن نلخصها ضمن أمرين:

 🔺الأمر الأول:

يقول هذا المفكر: في واقعنا المعاصر في كثير من الأحيان يظهر لنا الشر في صورة صديق خير محبب، فننخدع به ونتصالح معه، ونطبِّع معه، ثم فيما بعد ندرك أننا في وحل الشر غارقين؛ ولذلك بعض الكتاب الذين قدموا لكتابه الشر السائل يعطيه عنوانا آخر يسميه (التطبيع مع الشيطان أولاهوت الشر أوعبودية الشر) 

📌ثم يقول: اليوم في الحياة المعاصرة يجب أن تكون على حذر دائم، لأنه في كثير من الأحيان يأتيك الشر في صورة خيرة فتنخدع به، ويضرب لذلك مثالا لطيفا يقول فيه :

💫 كثير منا بإرادته وبطوعه ومن دون إجبار يقدم المعلومات الشخصية عن نفسه، ويفصح عن كل شؤونه بطوع إرادته عن طريق الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة وغيرها من الوسائل  على مدار 24 ساعة ومن دون أن يطلب منه وبتبرع منه وبكل أريحية، بينما هذا الخزان الهائل من المعلومات الشخصية المرتبطة بسلوك الناس كانت من الأحلام التي تحلم بها المؤسسات الاستخباراتية العالمية، وهي أن تظفر بهذا الكم الهائل من المعلومات والرقابة على الناس، 

💫نلاحظ القضية في ظاهرها قضية عادية قضية جذابة؛ لأنها انصياع للتكنولوجيا الحديثة، وحتى يقدم الشر نفسه لك يأتي بصورة جذابة براقة فتنخدع به، وإذا بك غارق في الوحل، ومن الواضح أن تقديم هذا الكم الهائل من المعلومات الشخصية عن أنفسنا لهذه المؤسسات العالمية الكبرى- التي لا تمتلك الورع في توظيف هذه المعلومات فيما يضر بالمجتمعات الإنسانية- هو غرق في شر، و لأنه تلبس لك بلباس حسن انخرطت فيه، 

💥فمن هنا ينبغي على الأفراد الذين يعيشون في مجتمع الحداثة السائلة أن يكونوا على حذر في التعاطي مع كل قضية، فلا يتعاطون معها بعفويه ولابد أن يكونوا فطنين  بكل قضية تطرق أذهانهم، يحللونها ويدققون فيها، ثم بعد ذلك يتخذون  الموقف والقرار. 

🔺الأمر الثاني

 وهو متمم للأمر الأول. يقول: كيف يحصل الانخداع لنا مع مظاهر الشر فنتصور أنها مظاهر خير؟، والشيطان المارد يظهر لنا في صورة الصديق المحب؟ ثم يجيب :من المستبعد جدا أن ترى اليوم في عصرنا الحاضر الشر في صورة ناصعة صلبة كما كنا نراه في العصور الماضية حينما كانت قضايا الشر تظهر لنا دائما بوضوح وصلابة إما أسود أو أبيض، بينما اليوم قضايا الشر دائما تظهر للناس في صورة رمادية دائما، فتأتي في شكل طيف متداخل مع قضايا خيرة فينطلي عليك الأمر.

🌟 مثال ذلك : حينما تطرح قضية الشذوذ لا تمرر لك كما كان في السابق، بل تمرر اليوم في المجتمعات الأخرى تحت عنوان الأقليات، وإعطاء الأقليات حقوقها، وتحت عنوان الحرية الشخصية، فيأتي الشر وتأتيك القيمة الأخلاقية الفاسدة ضمن طيف متدرج من العناوين البراقة الخيرة، وتمرر لك قضية التطبيع مع الشذوذ.

🌟 قضية تحرير المرأة وذكورية المرأة و جندرية المرأة تمرر لك تحت عنوان المساواة وحقوق المرأة وتحرير المرأة، وهكذا فكل القيم الشريرة تقدم ضمن طيف متداخل مع القضايا الخيرة. 

لذلك ينبغي للإنسان أن يكون حذرا مع قيم العصر الحاضر، عليك أن تتعامل مع الأمور بحذر ولا تتعامل معها بعفوية وسذاجة، ولا بد من  التدقيق في كل عنوان، ولذلك أشرت إلى هذا المعنى في مفهوم الجندر ومفهوم العنوان الاجتماعي وأنه  فخ وقع فيه الكثير. 

2️⃣الجانب الثاني:

 💫من كلمات هذا المفكر البولندي نستعيره من كتابه القيم الأخلاقية في عصر الحداثة السائلة، يتكلم عن نقطة مهمة جدا ، فينقل عبارة جاليليو يقول: إن كان جاليلو يقول لنا بأن كتاب الطبيعة -يعني القوانين الطبيعية- كتبت بلغة الرياضيات فإن علم الاجتماع المعاصر اليوم  كتب بلغة الاقتصاد.لئن كانت العلوم الطبيعة ترتكز على الرياضيات، فكن على يقين اليوم أن علم الاجتماع والقيم الاجتماعية كلها تسوق للناس بلغة اقتصادية؛ لأن علم الاجتماع المعاصر كتب باللغة الاقتصادية، 

💫وهنا يؤكد على مسألة ما يعبر عنه باستهلاكية القيم الإنسانية، ويضرب أمثلة؛ 

فيقول: إن المجتمعات التقليدية القديمة في السابق كانت مثلا تؤمن بكثير من القضايا الخيرة، فكانت ترى أن حب الجار أمرا أخلاقيا مبدئيا (أحب لجارك ما تحبه لنفسك)، وكانت المجتمعات العقلائية في قديم الأزمان تبنى على قضية مهمة؛ وهي أن الاجتماع قائم على الغيرية، أي أن المجتمع قائم على أن تشعر بغيرك، وأن تراعي مصلحة غيرك؛ ولذلك شاع التكافل الاجتماعي في المجتمعات القديمة، 

أما اليوم حينما دخلت لغة الإقتصاد في التنظير الاجتماعي بدأ يطرح: لماذاتحترم جارك؟ وما هي المصلحة التي تعود عليك من خلال احترامه؟ وما هو الربح الذي يعود عليك إذا قدمت لجارك شيئا؟ فأصبحت القيم الاجتماعية تصاغ بصياغة مالية وبصياغة الربح والخسارة؛ 

📌في مجتمع الحداثة اليوم جارك إنسان غريب وافد من مجتمع بعيد جاء وسكن بجوارك، أما المجتمعات التقليدية القديمة مجتمعات ريفية كان الأفراد أرحاما متعارفين فيما بينهم؛ ولذلك ترى الحداثة بشراستها جعلت العلاقة مع الجار علاقة متوترة قائمة على المصلحة،  ومن هنا انهارت كثير من القيم الاجتماعية؛ لأنها تأخذ لغة الربح والخسارة لغة المال.

 🔹من القضايا التي كانت تثير اهتمامي مسألة الترويج للشذوذ، فكنت أتساءل: هؤلاء العقلاء لماذا يروجون لقضية تفتت مجتمعاتهم؟ لماذا يروج الغرب لقضية كفيلة بأن تفتت مجتمعه وتجعل الأسرة تنهار؟

وعندما تفحصت وبحثت مارأيت إلا جوابين:

 ☑️1-أن الأجندة الاقتصادية ومسألة الربحية والتسويق لهذا الجانب يعمق هذه القضية. 

☑️2- الهوى وطاعة النفس، المجتمعات البشرية مجبولة على الاتجاه في كثير من الأحيان إلى الفساد، طاعة  النفس وطاعة الهوى وطاعة الغريزة وطاعة الشيطان، فتزين لهم عنوان الحرية وعنوان الغرائزية وعنوان الشهوية مثل هذه الأمور،  حينما تفكر وتتساءل : لماذا هذا الترويج الشرس و المستعر لمثل هذه القضايا؟ لا تجد جوابا إلا ما ذكره هذا الرجل: أن القيم الاجتماعية وعلم الاجتماع المعاصر يكتب بلغة المال باللغة الاقتصادية.

 🔹نحن اليوم في أمس الحاجة أن نؤكد على ضرورة ثبات القيم الإنسانية، وأن تسييل القيم ورمادية القيم وجعل الشر يلبس بطيف من الخير- حتى تذوب القيم الإنسانية الراسخة وتفتت قيم الحسن والقبح التي هي من القيم الراسخة عند المجتمعات الإنسانية -هو منزلق خطر تنزلق إليه المجتمعات الإنسانية والمجتمعات العاقلة، ولا بد أن تكون سدا منيعا تجاه هذا التيار؛ ولذلك يبقى الظلم قبيحا والعدل حسنا على مر العصور.

تعليقات