الشيخ د. اسماعيل المشاجرة / ليلة 7 محرم 1445هـ / الابتلاء ودوره في خلق الأنساق الاجتماعية


🖊️🖌️فريق صدى المنبر 🖊️🖌️

🖌️تحرير حكيمة آل حماد

✅ قال الله تعالى:

✅ ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَكۡرَمَنِ ۝١٥ وَأَمَّاۤ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَیۡهِ رِزۡقَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَهَـٰنَنِ ۝١٦﴾ [الفجر ١٥-١٦]

💫انطلاقا من الآية المباركة نتحدث حديثا وعظيا "بعنوان الابتلاء ودوره في خلق الأنساق الاجتماعية" ، فالحديث في مجمله العام حديث وعظي تربوي ينشطرإلى ثلاثة محاور:

 1️⃣ المحور الأول نتعرف من خلاله على حقيقة الابتلاء و فلسفة الابتلاء.

  2️⃣ المحور الثاني نقف وقفة خاصة مع الآيات المباركات التي استفتحنا بها.

 3️⃣ المحور الثالث نتحدث عن الابتلاء ودوره في خلق الأنساق الاجتماعية.

🔹🔹🔹🔹🔹🔹🔹🔹🔹🔹

 1️⃣ المحور الأول

 الابتلاء في اللغة بمعنى الافتتان والامتحان، يقال بُلي في أمره أي امتحن فيه، وبلي  المعدن وافتتنه إذ امتحنه وعرضه للنار ليظهر زيفه، 

📌ويقول ابن منظور في لسان العرب الابتلاء قد يكون في الخير وقد يكون في الشر، فلا يختص الابتلاء والبلاء والبلية بالأمر المكروه وغير المرغوب، إلا أنه غلب في استعمال الناس اطلاق البلاء والبلية على الأمر غير المرغوب، فالابتلاء يشمل كلا الصنفين. 

📌إذن الابتلاء في أصل اللغة يعني الامتحان والاختبار لبيان الزيف؛ يمتحن الإنسان ويبتلى حتى يُكشط  المظهر الزائف وتبان حقيقته، هل ثبت أو لم يثبت في امتحانه؟ هل معدنه معدن  أصيل وقادر على تحمل هذه المحنة التي نزلت به، أم أنه انهار وبان زيف هذا المظهر الذي يظهره لنا على أنه قوي صامد صابر؟. 

✅ وجاء الابتلاء في القرآن الكريم بنفس هذا المعنى، تتحدث آيات عديدة عن الابتلاء على أنه بمعنى الافتتان، ومفهوم الابتلاء مفهوم قرآني مركزي، ليس مفهوما قرآنيا فقط، بمعنى أنه ورد في القرآن الكريم، المفاهيم القرآنية المركزية هي المفاهيم التي أخذت حيزا واسعا من الاستعمال في القرآن الكريم، وتناوب القرآن على استعمالها في مناسبات عديدة؛ لبيان سنن الله في الأرض، ومن الواضح أن مفهوم الابتلاء من المفاهيم القرآنية التي أكد القرآن من خلاله على أنها سنة إلهية؛ 

💫ولذلك ورد لفظ الابتلاء في القرآن 38  مرة، فالقرآن يقرر في جملة من آياته بأن الابتلاء سنة إلهية شاملة عامة مطردة لا ينبغي للإنسان على وجه هذه البسيطة أن يتصور أنه في مأمن من الابتلاء، هو قانون إلهي قاعدة كل البشر خلقوا لأجل أن يبتلوا: 

✅ ﴿إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ ﴾ [الإنسان ٢]

🔅يعني الغرض من خلقه هو الابتلاء.

✅ ﴿ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡغَفُورُ﴾ [الملك ٢]

✅ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾العنكبوت 2.

💥لماذا جعل الله سبحانه وتعالى الابتلاء سنة؟، وما هي الغاية من هذا الابتلاء و الامتحان؟

 📝 يجيب العلماء جوابا غاية في اللطف وهو جواب برهاني يتشكل من مقدمتين:

 🔺المقدمة الأولى تقول: بأن الثواب والعقاب والجنة والنار في يوم القيامة أمر حقيقي واقعي ،كل إنسان مؤمن بالله واليوم الآخر يعتقد عقيدة راسخة جازمة بأن هناك يوما للحساب، وأن هناك جزاء وثوابا وجنة ونارا، والجنة والنار والثواب والعقاب أمر حقيقي.

🔺 المقدمة الثانية: إن الأمر الواقعي يجب أن يبنى على أمر واقعي، فما دام الثواب والعقاب أوالجنة والنار أمرا واقعيا، فيجب أن يبنى على أمر واقعي.

 💥الإنسان في الحياة الدنيا قد يظهر إيمانه وصلاحه لكن في حقيقته الواقعية هو غير مؤمن وغير صالح.

✅ يقول الإمام الحسين(ع):

 (الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قل الديانون)؛ يعني لا تعرف حقيقة المتدين وحقيقة المؤمن إلا بالامتحان  والابتلاء، فالإنسان في الحياة الدنيا قد يُظهر خلاف ما يبطن، قد يكون مظهره مظهر الإيمان والصلاح، لكن في حقيقته لا يملك إيمانا ولا صلاحا، فلو بُني الثواب والعقاب على ظاهر الإنسان؛ يبُنى على شيء غير حقيقي وغير واقعي، 

✏️ومن هنا يقول العلماء: لا بد من تدخل الابتلاء ليبين حقيقة الإنسان ويكشط عنه المظهر الزائف، ويبين حقيقة معدنه، فإذا ظهرت حقيقته ومعدنه؛  بُني الثواب والعقاب في يوم القيامة على أمر حقيقي وواقعي.

 💥إذن الحكمة والغرض من الابتلاء والامتحان؛ إظهار حقيقة الإنسان حتى يُرتب الثواب والعقاب على هذه الحقيقة، ولا يُرتب على مظاهر زائفة.

🔷إن الله سبحانه وتعالى يعرف حقائق البشر وهو في غنى عن أن يمتحنهم، ويعرف واقع إيمان الإنسان هل هو إيمان حقيقي أم زائف، ولكنه يبتلي و يمتحن و يفتتن العباد حتى يظهر حقيقتهم، فالله لا يظهر حقيقة العبد لذاته  فهو علام الغيوب، ولكن يظهر حقيقة العبد ويبين حقيقته عند العبد نفسه؛ أي عند الناس تظهر حقيقته.

✅ ﴿یَوۡمَ تُبۡلَى ٱلسَّرَاۤىِٕرُ﴾ [الطارق ٩]

💥بعض العباد حقيقتهم وباطنهم كظاهرهم، لأنهم معصومون،و الروايات تبين بأن أكثر الناس ابتلاء وامتحانا هم الأنبياء ثم من بعدهم الأوصياء.

 ✅ الرواية عن الإمام الصادق(ع) يقول: (إن في كتاب علي- إذا جاءت هذه العبارة عن الأئمة سلام الله عليهم تريد أن تبين حقيقة ناصعة وأساسا عقائديا راسخا: إن في كتاب لأمير المؤمنين كانوا أهل البيت يتوارثونه-  إن أشد الناس بلاء في الدنيا النبيون، ثم الوصيون ثم  الأمثل فالأمثل )

📌لماذا يمتحن الله الأنبياء والأوصياء ما دامت حقيقتهم وباطنهم كظاهرهم؟ 

💥يريد الله سبحانه وتعالى بذلك أن يظهر للناس كفاءتهم وقدرتهم على تحمل البلاء والمحنة، ويرفع درجاتهم؛ لأنه كلما  ابتُلي وامتحن العبد كلما أُهل وأُعد لامتحان أصعب وأشد، فيرتقي الله سبحانه وتعالى بعباده المقربين من مرتبة إلى مرتبة ومن درجة إلى درجة إلى أن يبلغوا أعالي الدرجات،  ولهذا يذكر العلماء رضوان الله عليهم: 

💥أن الابتلاء أصل حكمته وغايته إظهار حقائق الناس؛

✅﴿ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِۗ ﴾ [آل عمران ١٧٩] 

كما قالت الآية المباركة، وكما قال الله تعالى: 

✅ ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ ۝٢ وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ ۝٣ ﴾ [العنكبوت ٢-3]

💥إذن لا بد من الابتلاء والامتحان حتى يتميز الصادق من الكاذب، وحتى يميز الله الطيب من الخبيث.

 بما أن  الابتلاءات في حقيقتها تعود إلى هذا السبب وهذه العلة فإن لهذا الابتلاء أيضا مظاهر.

 🔹المظهر الأول من مظاهر الابتلاء: إن  الله سبحانه وتعالى قديبتلي  العبد لأجل أن يوقظه، الإنسان أحيانا غارق في هذه الدنيا، بعيد عن الله كل البعد، أخذته الدنيا يمينا وشمالا ولا يكاد يتذكر الله سبحانه وتعالى.

🔸يا منفقَ العمرِ في عصيانِ خالقِه...أفِقْ فأنك من خَمْرِ الهوى ثَمِلُ

💥يغرق الإنسان والعياذ بالله في المعاصي، معصية وراء معصيه، وظلمة وراء ظلمة إلى أن يُطبع على قلبه، فتأتي  البلية  كالصاعقة تهزه هزا، حتى توقظه وتذكره بالله تعالى،  وتنبهه من نومة الغافلين، فلا تنظر إلى البلية وإلى المحنة على أنها دائما نقمة، النقمة تصيب الكافرين والمنافقين، لكن المؤمن لا تصيبه النقمة. 

ولذلك ورد في الروايات:

✅ (إذا أراد الله بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، اتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار)

  🔹مظهر آخر من مظاهر الابتلاء الحب،  فالله سبحانه وتعالى قد يبتلي العبد ليظهر حبه له، وهذه فلسفة تجعلنا دائما محسنين الظن بالله سبحانه وتعالى، وتصبح علاقتنا مع الله دائما  علاقة محبة .

💥ما يصدر من الله دائما مظهر من مظاهر الرحمة، فالله سبحانه وتعالى في غنى عن أن ينتقم من العبد الضعيف المسكين، 

اجعل  ظنك بالله سبحانه وتعالى دائما هو الظن الحسن، و لا تسيء الظن بإلهك؛إن الله عند حسن ظن عبده به، ومتى افترضت أن ما ينزله عليك إنما هي بليات من باب الرحمة، ومن باب حب الله سبحانه وتعالى، يغرس في قلبك المحبة ويظهر لك حبه إياك.

 🔷ورد في الروايات:

✅ (إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه)

ورواية أوضح وأصرح عن الإمام الكاظم(ع):

✅(مثل المؤمن مثل كفتي الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه، ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له) 

🔷ورد أيضا في الرواية عن الإمام الصادق(ع): 

✅ (إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة)

🔺إذا رجع الإنسان من سفره  يتحف عياله بالهدية، فالله سبحانه وتعالى حبا بعبده يتحفه بالبلاء. إذن أنظر دائما إلى الابتلاءات على أنها علامة وإمارة لحب الله تعالى لك، أو يريد أن يوقظك؛ وهذا بلا إشكال مظهر من مظاهر الحب،  أو يريد أن يبرز حبه لك ورضاه عنك، فيبتليك.

  ورد في بعض الروايات:

✅ (إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا،)،  يعني يكثر عليه الابتلاءات. 

🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸

2️⃣ المحور الثاني

 وقفة مع الآيات المباركات:

✅ ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَكۡرَمَنِ ۝١٥ وَأَمَّاۤ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَیۡهِ رِزۡقَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَهَـٰنَنِ ۝١٦﴾

 💫تحتاج هذه الآيات إلى وقفة تأمل عميقة؛ لأنها تنطوي على تنبيهات غاية في الأهمية والخطورة.

 ♦️التنبيه الأول:

يتصور كثير من الناس أن الله سبحانه وتعالى إذا أنعم عليه وأعطاه وأغدق عليه النعم، فهذا مظهر الإكرام، وإذا حرم  الفقير المسكين من النعم فهذا مظهر الحرمان والامتهان.

🔺 يحذر القرآن الكريم العبد أن لا يغتر، ولا يتصور أن الإنعام عليه وإغداق النعم من باب الإكرام وكأنما يستحق أن يكرمه الله، بينما ذلك الفقير المسكين لا يستحق أن يكرمه الله،  ويبين بأن إغداق النعم ليست دليلا على الكرامة، والحرمان من النعم ليس دليلا على الامتهان والإهانة: 

✅ ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَكۡرَمَنِ ۝١٥ وَأَمَّاۤ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَیۡهِ رِزۡقَهُۥ فَیَقُولُ رَبِّیۤ أَهَـٰنَنِ ۝١٦﴾

♦️إذن ما هو ظاهر هذين الأمرين ؟

 يقرر القرآن أن كليهما ابتلاء من الله. 

💥هناك من يبتلى بالنعمة، وآخر يبتلى بالحرمان من النعمة،  فالله إذا أغدق نعمة على قوم، وحرم آخرين منها، ليس معناه أن أولئك الذين حرموا من النعم ومن العطاء على الله بهم هوانا،  

مثلا الأفارقة المساكين يعيشون حالة مجاعة وفقر، فلا يعني أنهم محل إهانة، بينما المجتمعات التي تغدق عليها النعم أن الله أكرمها، 

✅ يقول القرآن لا العطاء علامة الإكرام ولا الحرمان علامة الامتهان وإنما كلا الأمرين ابتلاء وامتحان، ذاك يبتلى ويمتحن بالفقر، وأنت تبتلى وتمتحن بالنعم والغنى والثروة، وهذا تنبيه خطير، 

💥فلننتبه إلى أن هذه النعم هي ابتلاء وامتحان إلهي خطير أشدخطورة من ابتلاء وامتحان ذلك الفقير بفقره وحرمانه. 

 ♦️التنبيه الثاني

 ما هو مقياس النجاح في هذا الابتلاء والامتحان ؟

📌الفقير إذا امتحن و ابتلي بالفقر ماهو مقياس نجاحه، والغني إذا ابتلي وامتحن بالعطاء والثروة والترف ما هو مقياس نجاحه؟ 

💫لو قلنا:  إن  مقياس الفقير في  نجاحه هو الصبر والتسليم والرضا، والغني أيضا نجاحه في الامتحان التسليم والرضا، وكل الناس يرضون بالنعمة وبالعطاء والنعم الإلهية، أصبحت القسمة قسمة ضيزى! نريد الغني يصبر ويسّلم ويرضى بغناه كما يسّلم ويصبر الفقير على فقره!،

فالغني  تسليمه ورضاه أمر ميسور، بينما ذاك المسكين المحروم الفقير تسليمه ورضاه أمر عسير، 

💫إذن مقياس النجاح في ابتلاء الفقير بفقره هو تسليمه ورضاه وعدم اعتراضه. 

💥لكن أنت الذي أنعم الله عليك ليس مقياس نجاحك رضاك  وتسليمك، امتحانك أصعب، فهل مقياس النجاح أن تنفق- وهذا أمر جيد- لكن هل إذا أنفقت وأعطيت الفقير تكون قد نجحت في الامتحان؟

📌 أن تتصدق على هذا الفقير بالصدقات الواجبة والمستحبة من  زكاة وخمس وصدقات مستحبة لايعد نجاحا في الامتحان والابتلاء بالنعمة، نعم إخراج الصدقات الواجبة أو المستحبة  تقيك من العقوبة، لأنك امتثلت لأمر  الله،  لكن هل مجرد إعطاءك للفقير فاضل مالك يعني أنك نجحت في الامتحان، وتستحق من الثواب والعطاء والنعيم في يوم القيامة عين ما يستحق هذا الفقير الذي حرم طوال حياته من النعم التي أغدقت عليه؟.

 ☄️حكم عقلك؛ لو كانت المسألة بهذه البساطة لأصبح ذلك ظلما لهذا الفقير المسكين الذي حُرم طوال حياته من النعم، وأنت تغدق عليك النعم الواحدة تلو الأخرى، وتخرج فاضل مالك تتصدق به على هذا الفقير، ويوم القيامة تتساوى أنت وهو في نفس المرتبة من الجنة!.

 💥 إذن ما هو مقياس النجاح للغني الذي امتحن وابتلي بنعمة  الغنى والعطاء والثروة؟

 💯مقياس النجاح المواساة؛ وهي أن يصبح حالك أيها الغني حال المواسي للفقير المحروم، يعني أن تستوي عندك النعمة وعدمها، تصل إلى حال من الزهد بحيث يتساوى عندك العطاء وعدمه،

 وتهيأ نفسك أن تعطي الفقير نصف ما أعطاك الله هكذا تكون واسيته،  إذا استوى عندك أمر النعم وعدمها؛ بحيث أصبحت على استعداد أن تعطي كل مالك  للفقير و تواسيه في فقره؛ هنا تكون قد  نجحت في الامتحان وتستحق من النعيم في يوم القيامة ما يستحقه الفقير، بل وأكثر.

 📌ولذلك ركزت الآيات القرآنية على نجاح الغني في ابتلائه وامتحانه؛ لأن الفقير غالبا ينجح يصبر ويسّلم،  لكن هذا الغني امتحانه أشد:

✅ (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا  بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا 20)

 💥يعني أغلب من يخسرون في هذا الامتحان هم من أنعم عليهم، والفقير ينجح في الامتحان،   فينبغي للإنسان أن يكون حذرا من ابتلاء النعمة وامتحانها،  ولا بد أن يربي نفسه ويدربها و يجاهدها بحيث تصبح عنده مواساة الفقير أمرا عاديا، ولذلك نقرأ في سيرة المعصومين أن الإمام الحسن :

✅(قاسم الله ماله ثلاث مرات، حتى أن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ويعطي خفا ويمسك خفا) يعني يتصدق بكل أمواله في سبيل الله، وهذا هو النجاح.

 💫ولذلك نرى أصحاب أمير المؤمنين سلام الله عليه كيف يصفونه.

 🔸ضرار بن ضمرة من أصحاب الإمام علي دخل على معاوية فقال له معاوية يا ضرار صف لي عليا، فَقَالَ لَهُ: أَوَ تُعْفِينِي مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لَا أُعْفِيكَ،

✅ فقال له : كَانَ واللهِ بَعِيدَ الْمُدَى، شَدِيدَ الْقُوَى، يَقُولُ فَصْلًا، وَيَحْكُمُ عَدْلًا، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ، وتنطق الحكمة من لسانه يستوحش من الدنيا وزخرفها ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه ونحن والله! مع تقرّبه لنا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين ويقرّب المساكين لا يطمع القويّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله وإنّي أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول :  يا دنيا غرّي غيري إليّ تعرّضتِ أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير وخطرك كبير وعيشك حقير آه! من قلّة الزّاد وبعد السّفر ووحشة الطّريق ) 

🔺فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ،واخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ ـ معاوية ـ: كَانَ واللهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ. 

✅هذا هو أمير المؤمنين سلام الله عليه، فمن يريد أن يسير على نهج علي لا بد أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا، الزهد في المال، لا يبخل بالعطاء على الفقراء والمساكين، بل يفرح إذا وجد فرصة يكرم بها فقيرا أو مسكينا.

 ✅كان الإمام زين العابدين إذا رأى الفقير يرحب به ويقول: (مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة )

💥لا تستطيع أن تنقل أموالك إلى الآخرة إلا ببركة هذا الفقير، حينما تتصدق عليه تجد الوعد والثواب يوم القيامة. 

🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸

المحور الثالث

 من حكم الله وسننه في الخلق  بهذه الابتلاءات تتكامل المنظومة الاجتماعية ويتحقق التكافل الاجتماعي، 

📌فالله حينما يبتلي الفقير بفقره فيحرمه ويصبح فقيرا، وذاك يبتلي بالنعمة فيعطيه، فيصبح هناك غني وهناك فقي، وإذا وُجد غني وفقير وُجد التراحم والتكافل، تصور لو أن كل الناس أغنياء ليس فيهم فقراء، فكيف يتكافلون وكيف يشفقون على بعضهم البعض ،وكيف يرحمون بعضهم البعض ،كيف يظهرون محبتهم لبعضهم البعض، 

📌إذن وجود هذه الأنساق من فقراء ومساكين وأيتام؛ من أجل أن يوجد من يتصدق على الفقير، ومن يرحم المسكين ويكفل اليتيم، وهذه  واحدة من حكم الله تعالى- حينما يبتلي الفقير بفقره، ويبتلي الغني بغناه- أن يتحقق التكافل الاجتماعي، وتترابط هذه الأنساق الاجتماعية، وتشيع المودة والمحبة والشفقة والرأفة والرحمة، 

📌مجتمع بلا تراحم كالسباع الضارية، الدنيا مليئة بالمنافسة وبالشراسة و بالضراوة كل واحد يتسابق من أجل أن يظفر بما لا يريد غيره أن يظفر به، فإذا وجد الفقير يذكرك بضعفك وبفقرك فتشفق عليه، فوجود الفقراء مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية؛ 

🔹والمواساة هي المطلوبة من الإنسان الذي أنعم الله عليه؛ وما لم تصل إلى حد المواساة فأعد حساباتك؛ أنت لم  تنجح بعد  في ابتلاء النعمة، لكن إذا وصلت إلى حد مواساة  الفقير في فقره تكون قد نجحت. 

✅ولهذا تربينا مدرسة كربلاء على المواساة،  أبو الفضل العباس صلوات الله وسلامه عليه صاحب هذه الليلة ضرب لنا أروع الأمثلة في المواساة، لم يحدثنا التاريخ على الإطلاق بمواساة كمواساة أبي الفضل العباس.

تعليقات