🖌️تحرير: حكيمة آل حماد
قال الإمام الحسين (عليه السلام):
✅(إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون)
📌هذا النص يتناول جانبا مهما من المزاج الاجتماعي الذي يحكم المجتمعات فيما يرتبط بنصرتهم للدين وللحركة الدينية،
📍وانطلاقا من هذا النص الحسيني نتحدث عن ما عنوناه بالحركة الحسينية في ظل البنية الاجتماعية لمجتمع الخلافة،
🔺وحديثنا باعتبار أنه مقاربة تاريخية وفق منهج مدرسة تاريخية معاصرة تعرف بمدرسة الحوليات؛ لذلك سينشطر حديثنا إلى محورين ومقدمة:
1️⃣ في المقدمة نعرِّف بهذه المدرسة التاريخية المعاصرة.
2️⃣ ثم نتناول في المحور الأول البنية الاقتصادية للمجتمع المدني.
3️⃣ وفي المحور الثاني البنية الاجتماعية للمجتمع المدني.
🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸
1️⃣ المقدمة:
من أهم المدارس التاريخية المعاصرة، بل لعلها الأهم على الإطلاق مدرسة تعرف بمدرسة الحوليات الفرنسية، هذه المدرسة تأسست بصدور العدد الأول من مجلة تاريخية تعرف بمجلة الحوليات صدرت في 17-1-1929م
🔺في عام 1920 التقى عالمان ومؤرخان فرنسيان من أهم علماء التاريخ المعاصر ؛ لوسيان فيفار ومارك بلوك في جامعة ستراسبورغ في فرنسا، وتباحثا فيما بينهما مسألة الحركة التاريخية ،وبدأوا يعقدون جلسات وندوات اسبوعية تأريخية على هامش اشتغالهم الجامعي، وكانوا يدعون إلى هذه الجلسات والندوات علماء اجتماع وعلماء اقتصاد وعلماء من تخصصات أخرى، ويتباحثون في المسائل والمباحث التاريخية،
🔺وبعد تسع سنوات تبلورت عند هذين الإثنين فكرة ومنهج تاريخي مهم؛ أنه لماذا لا ننقل حركة الكتابة التاريخية من النمط التقليدي السائد إلى نمط ومنهج تاريخي جديد، فأسسوا على إثر ذلك مجلة عرفت بمجلة (حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي)،
🔺وبدأت تصدر الأعداد من هذه المجلة، ومن خلال هذه المجلة أباح هذان المؤرخان بمنهجهما وبالمدرسة التي ينشدون تأسيسها وتدشينها على المستوى التاريخي، فأشاروا إلى أهم الخصائص التي ينشدون أن تصبح الكتابة التاريخية متميزة بها، ومنذ ذلك الحين إلى اليوم مجلة الحوليات الفرنسية تصدر،
🔺وتعاقب عليها رؤساء تحرير مهمين من أهمهم عالم التاريخ الفرنسي المعروف ولعله أشهر مؤرخ في العصر الحديث اسمه بروديل (1902-1985)
🔺 شغل بروديل رئاسة تحرير هذه المجلة منذ عام 1970 إلى حين وفاته، هذه المجلة أعطت صياغة أخرى للبحث التاريخي، حتى أن بعض المفكرين والمؤرخين العرب المعاصرين، الدكتور عبد الله العروي أحد المؤرخين والمفكرين المغاربة المعروفين له كتاب تحت (عنوان مفهوم التاريخ)
🔺يتحدث عن مدرسة الحوليات الفرنسية يقول: هي بمثابة الثورة في علم التاريخ لم تشهد الأحداث والكتابات التاريخية حدثا معاصرا مهما كولادة هذه المدرسة التاريخية؛ لأنها نقلت البحث التاريخي والكتابة التاريخية إلى أفق مختلف تماما عما ما كان سائدا )
🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺
📚1-ما هي أهم خصائص هذه المدرسة ؟
💥الخاصية الأولى:
🔺ترى هذه المدرسة أننا حينما نطالع كل كتب التاريخ الماضية نجد أن التركيز الأساسي في الكتابات التاريخية على الحدث السياسي؛
🔺الأحداث المفصلية في تاريخ الأمم والمجتمعات، والأحداث المفصلية تتبلور حول شخصيات معدودة،
🔺على سبيل المثال حينما نتكلم عن التاريخ الإسلامي مثلا؛ نتحدث عن تاريخ الدولة الأموية، وعن ما جرى على يد معاوية، ثم يزيد بن معاوية، ثم ننتقل إلى الدولة المروانية ونتناول شخصيات بعينها، ثم الدولة العباسية ونتناول شخصيات بعينها،
🔺إذن الكتابة التاريخية التقليدية السائدة في جميع الأمم تختصر الحدث التاريخي ضمن شخصيات وأحداث محدودة، والحال أن الواقع التاريخي ينبغي أن يستوعب واقع الحياة برمتها.
🔺فعندما نريد أن نتكلم عن عصر من العصور ينبغي أن تكون الكتابات التاريخية تسلط الضوء على سائر الأحداث الاجتماعية والاقتصادية وحركة المجتمع، ولهذا تقول هذه المدرسة بأننا بلكاد نجد كتابات تاريخية تتحدث لنا عن حياة الفرد العادي وما هي يومياته وما هي المشاغل التي كانت تسيطر عليه في عصر من العصور،
🔺فالكتابات التاريخية دائما تغفل الجانب الاجتماعي، تنقل القضايا الاجتماعية بقدر ما يمس الحدث السياسي،ولكن لا تسلط الضوء على الواقع الاجتماعي والبنية الاجتماعية بشكل موسع ومفصل، والحال أن البنية الاجتماعية والواقع الاجتماعي هو الأرضية الأساسية للأحداث التاريخية،
🔺فالحدث التاريخي والحدث السياسي لا ينطلق إلا في ظل بنية اجتماعية معينة، وهكذا الأمر أيضا بالنسبة للبنية الاقتصادية،
🔺فالاقتصاد يلعب دورا كبيرا في حركة المجتمعات وفي حركة الأمم، وبالتالي كان ينبغي على المؤرخين إذا أرادوا أن ينقلوا لنا الأحداث التاريخية بأمانة ودقة، ويصفوا واقع ماجرى أن يولوا الجانب الاجتماعي والاقتصادي أهمية كبرى؛ لأنهما الأرضية والحاضنة الحقيقية للأحداث السياسية.
💥الأحداث السياسية هي عبارة عن مفرزات ومنتجات للبنية الاجتماعية والبنية الاقتصادية التي يتحرك فيها المجتمع.
💥نحن اليوم في مشهد عاشورا عندما نريد أن نسلط الضوء على الحدث الحسيني لا بد أن ندرس الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ومن خلال هذه الدراسة نستطيع أن نحل بعض الأحجيات ونسد بعض الثغرات ونكتشف بعض العوامل التي حركت بشكل مباشر الإمام الحسين، والعناصر في حركتة.
💥💥الخاصية الثانية :
🔺وسعت هذه المدرسة من مفهوم الوثيقة التاريخية في كتابات المؤرخين،
يركز المؤرخون التقليديون على النصوص السياسية؛ رسالة يرسلها الخليفة فلان أو الملك فلان إلى البلد الأخرى، لكن هذه المدرسة تعتبر أن الوثائق التاريخية؛ هي كل ما يتركه المجتمع من آثار مادية لها ارتباط بالواقع التاريخي، كالكتابات والمؤلفات والأبنية .
💥💥💥الخاصية الثالثة:
🔺ترى هذه المدرسة أن المؤرخ لا بد أن ينفتح على التخصصات الأخرى، ومحاولة تكسير الحواجز بين التخصصات وعلم التاريخ؛ لإنه لا يمكن للمؤرخ أن يؤرخ لحدث ما دون أن ينفتح على عالم الاجتماع وعلى عالم الاقتصاد ويستقي منهما بعض أدواته وآلياته ليعالج بها القضية التاريخية.
🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺🔺
📌النقطة التي أريد أن أركز عليها:
🔺أحد مؤرخي ورواد مدرسة الحوليات، وهو ما سبقت الإشارة إليه (فرناند بروديل)؛له كتاب مهم جدا اسمه (تاريخ البحر الأبيض المتوسط)
🔺وهذا الكتاب في أكثر من ألف صفحة يتحدث فيه عن تاريخ البحر المتوسط، وطرح فيه نقطة مهمة جدا؛ قال :
📍بأن الزمن التأريخي على ثلاثة أصناف:
💥الزمن القصير والزمن المتوسط والزمن الطويل.
♦️الزمن القصير هو زمن الحدث السياسي. عندما نتحدث مثلا عما جرى على الإمام الحسين نختصر القضية في أحداث مفصلية سريعة نقول فيها : خرج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة، ثم خرج إلى الكوفة، وفي طريقه إلى الكوفة حصلت أحداث، ثم وصل إلى كربلاء وجرى ما جرى عليه.
🔹هذا هو الزمن القصير للحدث، لكن وراء هذا الزمن القصير هناك زمنان مهمان:
♦️الزمن المتوسط وهو الزمن الاجتماعي،
♦️والزمن الطويل وهو الزمن الجغرافي.
♦️الزمن المتوسط المعبر عنه بالزمن الاجتماعي لا يمكن أن نكتشف الأحداث التاريخية المرتبطة بالزمن القصير دون الرجوع إلى الزمن المتوسط الزمن الاجتماعي؛
♦️على سبيل المثال: إذا أردنا أن نكتشف حقيقة ما جرى في حدث الحسين ع ؛ لا بد أن نرجع بالتاريخ إلى زمان النبي المصطفى زمنٌ أبعد أمد من الزمن القصير، والزمن الأبعد أمد هو الذي يكشف لنا تفاصيل ما جرى في الزمن القصير،
🔺وندرس واقع المجتمع الإسلامي الذي تحرك فيه الحسين منذ عهد الرسالة؛يعني إذا أردنا أن نطلع على البنية الاجتماعية والبنية الاقتصادية للمجتمع المدني الذي يعتبر الحاضنة الأولى لحركة الإمام الحسين، لا بد أن نرجع بإزاحة تاريخية إلى أيام النبي ص.
ومن هنا نأتي إلى المحورين المهمين:
🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸
2️⃣ المحور الأول:
نتناول فيه البنية الاقتصادية للمجتمع المدني:
💥ينص بعض المؤرخين على أن عدد سكان المدينة المنورة قبل هجرة النبي ص إليها كان قرابة ال15,000 نسمة، لكن بمجيء النبي بعد الهجرة وقدوم المسلمين تضاعف عدد سكان المدينة إلى أن وصل في سنة وفاة النبي إلى 30,000 نسمة،
📍وكان هذا المجتمع المدني يتشكل من قطاعات مختلفة؛ يشكل المسلمون حيزا كبيرا في هذا المجتمع، وهناك أيضا اليهود وبعض القبائل البدوية المحيطة بالمدينة المنورة،
📍لكن العنصران الأساسيان المشكلان للمجتمع المدني هم المسلمون واليهود.
💥الواقع الاقتصادي لهذا المجتمع:
📍يذكر بعض الدارسين أن هناك عدة حرف وعدة مشاغل كانت تشغل المجتمع المدني على المستوى الاقتصادي والتجاري:
💥القطاع الأول القطاع الزراعي؛ كانت الزراعة هي المشغل الأساسي لسكان المدينة المنورة وكان من بيدهم الاشتغال بالزراعة هم الأنصار، فعندما قدم النبي إلى المدينة المنورة كان الأنصار عندهم الكثير من البساتين والقطاع التي يشتغلون فيها بالزراعة، فشجعهم على ذلك.
📍ولما أراد المهاجرون أن يدخلوا في العمل الزراعي نهاهم النبي ص ؛ لأنه كان يريد أن يجعل إدارة القطاع الزراعي فقط مختصة بالأنصار، حتى أنه لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة تقوم على المشاطرة؛ يعني كل واحد يشاطر أمواله وما يملك مع الآخر، فأراد الأنصار أن يشاطروا المهاجرين ممتلكاتهم الزراعية، ويعطون نصفها إلى المهاجرين نهاهم النبي، فكان كل أنصاري يجعل لأخيه المهاجر بعض الأعذاق من النخيل الخاصة يأكل من ثمرتها متى ما شاء.
📍وبقي القطاع الزراعي بيدالأنصار، ولم يقبل النبي أن يشتغل المهاجرون بالجانب الزراعي؛ لأنه أرادهم أن يتفرغوا لجوانب أخرى، ومن أهمها الجهاد في سبيل الله، وكان ثقل الجهاد في الدرجة الأولى على المهاجرين إلى أن بدأ الأنصار يؤازرون ويدخلون مع النبي في معاهدات نصرة على مستوى الغزوات والمعارك التي غزاها، ولكن الثقل الأكبر كان في البداية على يد مهاجرين.
💥إذن الجانب الاقتصادي الأول الذي يمثل مصدر دخل أساسي للمدنيين في العهد النبوي هو الزراعة.
💥القطاع الثاني هو التجارة، وكان رواد هذا القطاع هم اليهود، وكانوا يمتلكون رؤوس أموال كبيرة، وكانوا يتاجرون بالأموال، وركيزة تجارتهم القرض الربوي، حتى أن الأنصار كانوا يقعون في معضلات ومشاكل اقتصادية بسبب عملية الربا التي كان يمارسها اليهود في حقهم.
📌لذلك يرى بعض الدارسين أن بيعة العقبة التي حصلت بين النبي والأنصار كان دافعها الأساسي هو الدافع الإيماني، ولكن أيضا من ضمن العوامل التي ساعدت ودفعت الأنصار على عقد البيعة ، أن اليهود بسبب تضخم أموالهم في المدينة، بدأوا يتحكمون في الواقع الاجتماعي والواقع الاقتصادي للمدنيين،
🔺فتضايق الأنصار من ذلك، ورأوا بأن عقد البيعة مع النبي ص ودعوته إلى المدينة المنورة يعالج هذه المشكلة.
📌و يرجع بعض المؤرخين والباحثين أيضا -عامل من عوامل بيعة العقبة- إلى العامل الاقتصادي.
📌فإذن القطاع التجاري اشتغل به اليهود بالدرجة الأولى، لكن النبي استطاع بحكمته وحنكته أن يسحب البساط من تحت اليهود.
📌ماذا صنع النبي صلى الله عليه وآله؟
🎈أولا: حرم الربا، فامتنع المسلمون عن المعاملات الربوية، وهذا هو المصدر الأساسي لتجارة اليهود، فبدأت منابع التضخم للأموال اليهودية تجف بالتدريج.
🎈ثانيا: شجع الأنصار على مضاعفة عملهم الزراعي، فأمرهم باستصلاح أراضي زراعية أو سع، واشتغلوا على هذا الجانب، حتى يقول بعض المؤرخين: انتعشت الزراعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله، وبدأت المدينة المنورة تصدر بعض المنتجات الزراعية إلى خارج المدينة المنورة؛ مما يعني أن النبي نجح في تحريك العامل الاقتصادي بالنحو الذي يجعل مصادر القوة عند المسلمين.
🎈ثالثا: أوعز النبي (ص) إلى بعض المهاجرين بأن يسلكوا طريق التجارة، فجعل الأنصار يختصون بالزراعة ، و أذن للمهاجري أن يتاجروا، فبدأ بعض المهاجرين يركب طريق التجارة، وبرزت شخصيات تجارية كبيرة على المستوى المدني؛ كعبد الرحمن بن عوف.
📌آخى النبي صلى الله عليه وآله عبد الرحمن بن عوف بينه وبين رجل من الأنصار اسمه الربيع بن عامر الأنصاري، وكان هذا رجل ثري، فعرض على عبد الرحمن بن عوف نصف ثروته، بعض المؤرخين يقولون قبل ثروة الربيع، وبعض المؤرخين يقولون لم يقبل ،النتيجة أن عبد الرحمن بن عوف أخذ شيئا من هذا المال وخرج إلى سوق بني قينقاع، وبدأ تجارته، وشيئا فشيئا بدأت تنمو إلى أن أصبح من أكابر تجار المدينة،
📌وذكر بعضهم أنه في مرة من المرات أنفق في سبيل الله 500 بعير، وأيضا انخرط في هذا السبيل في التجارة شخصيات أخرى من المهاجرين منهم: الخليفة الثالث عثمان، بل بعض المؤرخين يقول أن الخليفة الأول والثاني أيضا اشتغلوا بالتجارة، فنتج عن هذه الممارسة أن بعض كبار المهاجرين أصبحوا ذوي رؤوس أموال كبيرة، ونحن نريد أن نركز على هذه النقطة بما يتصل بالقضية الحسينية.
💥كان الأمويون من أكثر الشخصيات اغتناما لهذه الفرصة، بحيث بدأوا يستغلون هذا الجانب في تنمية ثرواتهم بشكل طائل، وبدأت القصة مع أبي سفيان.
أمر النبي (ص) في أيام مرضه أبا سفيان بالخروج من المدينة لجمع الصدقات من بعض المناطق، فكأن النبي كان يوجس خيفة من أن هناك مخططات من أبي سفيان، فأبعده عن المشهد، فلما ذهب إلى جمع الصدقات رجع بعد أن تولى الخليفة الأول الخلافة، وكان الخليفة الأول والخليفة الثاني يدركان خطورة أبي سفيان، فالنبي كان يتألف قلوب هؤلاء الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة بالعطاء، فأراد الخليفتان أن يتألفا أبا سفيان؛ فأجازوه في الصدقة التي جمعها.
💥ومن هنا بدأ أبو سفيان يجمع ثروة إلى أن استقر به الحال، وشيئا فشيئا بدأت ثروة أبي سفيان وابنه معاوية تتزايد إلى أن تولى معاوية أمر الشام في أيام خلافة الخليفة الثاني، وصارت الشام مصدر دخل ضخم لثروة معاوية، فبدأت الثروة الأموية على المستوى الاقتصادي تشكل رقما صعبا في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمسلمين.
————————————
💥أحد الكتاب (هشام جعيط ) في بعض كتبه يقول :عندما نلقي نظرة على الواقع الاقتصادي في أيام الخلافة خصوصا في أيام الخليفة الثالث؛ نرى هناك تباين كبير بين الحالة الاقتصادية التي تعيشها المجتمعات البعيدة عن المدينة والحالة الاقتصادية في المدينة المنورة، وأن معدل العطاء لعموم المسلمين في أقطار البلاد الإسلامية في عصر الخليفة الثالث كان ما بين 200 درهم إلى 3000 درهم، بينما في المدينة المنورة تركزت ثروات هائلة جدا، وهذا ما نص عليه
جملة من المؤرخين كابن سعد في الطبقات، والطبري في تاريخه، وغيرهم.
💥اغتنى مجموعة من أهل المدينة كالأمويين ومن لف في فلكهم، على سبيل المثال: عبد الرحمن بن عوف الذي أشرنا إليه سابقا، ينص المؤرخون على أن ثروته حينما مات كان نصيب واحدة من زوجاته 80,000 دينار ذهب، وكان على مربط فرسه الخاص 100 فرس وألف جمل و5000 من الغنم، وكان يمتلك أراضي زراعية شاسعة تقدر قيمة الأرض الواحدة ب80,000 دينار ذهبية.
📌وقدر المؤرخون ثروة عمرو بن العاص بأنها 140 دُبْلا من الذهب( إردبا) ، والدوبل وزن من الأوزان تكال به الحنطة والشعير.
📌أما معاوية فسكتت المصادر التاريخية عن وصف ثروته، ولكن هناك إجماع عند المؤرخين أنها تفوق ثروة عمرو بن العاص وثروة عبد الرحمن بن عوف، إذن كان التيار الأموي ومن لف لفيفه يتحكمون بمصادر الحركة الاقتصادية في المجتمع المدني،
✅وهذا ما يبرر لنا أن الإمام الحسين كما نص على ذلك بعض المؤرخين ،كان يعمل ولايته في بعض الأحيان من أجل قطع وصول الأموال إلى معاوية؛ لأن التضخم المالي عند معاوية ينذر بكوارث تقع فيها الأمة على مستوى الصراعات والنزاعات التي كانت بين معاوية وبين خصومه.
🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸🔸
3️⃣ المحور الثاني:
نتناول الحديث عن البنية الاجتماعية، وهذه مهمة جدا أن نستوعبها؛ لأن لها ارتباط أيضا وثيق بحركة الإمام الحسين.
💥في المجتمع الذي ظهرت فيه دعوة النبي، و هو المجتمع المكي لا ريب أنه مجتمع قبلي بامتياز قائم على العصبية القبلية، ولذلك حينما أراد النبي ص أن يعلن عن دعوته اضطر أن يتماشى مع هذا الواقع القبلي السائد في مكة، فأول دعوة للنبي كانت دعوته لقبيلته، جمع بني هاشم وبدأ من بني هاشم إعلان دعوته، ولكن في المقابل بدأ يؤسس لمنهج آخر يبدد فيه العصبيات القبلية، ولهذا بدأ يبث دعوته بين المستضعفين والطبقة الثانية والثالثة في المجتمع المكي؛ العبيد المحرومين فكان هؤلاء أول من استجاب لدعوة النبي ،بلال بن رباح وعمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية وخباب بن الأرت هؤلاء كلهم كانوا من العبيد،
📌فبدأ النبي ص يؤسس في مسار آخر لمبدأ الشراكة في الدين في قبال الشراكة القبلية، ويؤسس لمبدأ:
✅ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وبدأ النبي ص شيئا فشيئا يبث هذا المنهج في أتباعه إلى أن أعياه الأمر في مكة المكرمة، فقد كانت الحالة القبلية مستحكمة، فاضطر للهجرة حتى تخلصه من هذا الواقع القبلي، وفعلا هاجر إلى المدينة وبدأ يبني مجتمع الرسالة على أساس الشراكة في الدين،
✅ولذلك بمجرد أن وصل صلى الله عليه وآله إلى المدينة المنورة أعلن عن عنوانينِ يصنف بهما المجتمع الإسلامي؛ وهذان العنوانان لا مساس لهما بالحالة القبلية على الإطلاق؛ عنوان (أنصار ومهاجرين) و(النصرة والهجرة )عناوين إسلامية إيمانية دينية وليست عناوين قبلية،
📍ولذلك شيئا فشيئا بدأت العصبية والعناوين القبلية تتلاشى في المجتمع المدني، وصار يشار إلى الشخص بأنه مهاجري أو أنصاري، وتلاشت مسميات قرشي أو هاشمي أو أموي من الثقافة الإسلامية في عصر النبي (ص)،
📍ثم بدأت تشييع عناوين أخرى، فمن شارك في معركة بدر يقال عنه بدري، ومن شارك في أحد يقال عنه أحدي. وهذه عناوين إيمانية تكشف عن الجهاد وعن النصرة وعن الذوبان في الدين، ثم بدأت تشييع عناوين؛ أهل الجهاد؛ وأهل الزكاة والفقراء والمساكين والمحتاجين، وهذه كلها كما عناوين تتصل بالجانب الديني والإيماني والفقهي والجهادي بجانب الزكاة وما شاكل.
—————-
✅ أما الخطوة الثانية التي انتهجها النبي؛ فقد آخى بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة أوجدت لحمة بين المسلمين تفوق اللحمة القبلية، فبعد المؤاخاة أصبح المهاجري والأنصاري ينظران إلى بعضهما البعض بأن الأخوة بينهما تفوق الأخوة القبلية، حتى أن التوارث في تلك المرحلة كان على أساس هذا الجانب، إلى أن النبي فيما بعد نسخ هذا الحكم،
🔺لكن من الواضح أن المؤاخاة أخذت عمقا كبيرا في المجتمع الإسلامي إلى الحد أن أخوة الإيمان صارت تغلب أخوة القبيلة، وأصبح المسلم في الحروب يقاتل أخاه وأباه القبلي؛ لأن لحمة الإيمان وعصبية الإيمان وشراكتة تفوق العصبية القبلية،
💥إذن نجح النبي (ص) في فترة قياسية أن يبدل العناوين القبلية ويستبدلها بعناوين إيمانية، ولذلك لا نجد في القرآن الكريم خطابات قبلية، فيخاطبهم ب( يا أيها الذين آمنوا)
✅و هذه من المزايا التي يمتاز بها القرآن عن التوراة والإنجيل في الخطاب، قد يكون فيها (يا بني إسرائيل) كما حدثنا القرآن :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾، لكن القرآن حينما يأتي إلى المجتمع النبوي والرسالة النبوية تبددت فيه كل العناوين القبلية وصار الخطاب خطابا مبنيا على الانتماء للدين والعقيدة، بل حتى العنوان النبوي الذي له حساسية فيما يرتبط بمستقبل الأمة بعد النبي (ص) اجترح النبي والقرآن عنوانا جديدا(عنوان أهل البيت).
✅ أشار النبي إلى أن الخلفاء من بعده وهم أهل بيته فلم يعطهم عنوانا قبليا، بل عنوان أهل البيت، عنوان شرعي قرآني لا يتصل بالحالة القبلية على الإطلاق، عنوان الكفاءة والاصطفاء الإلهي، واستمرت هذه العناوين إلى وفاة النبي، وهذه من أهم الإنجازات العظمى التي استطاع النبي أن ينجزها في فترة قياسية قصيرة جدا ما كان لقائد آخر أن ينجزها،
💥لكن مع شديد الأسف بمجرد وفاة النبي (ص) ومنذ اليوم الأول و الساعة الأولى لوفاته بدأ العنوان القبلي يطفو على السطح مرة أخرى في اجتماع السقيفة، فطرح عنوان قرشي، وبدأت قضية العناوين القبلية تعود إلى المجتمع الإسلامي، وبدأت القضية القبلية تعود بالتدريج،
💥وكان رواد هذا المنهج هم الأمويون، حتى أن العلامة الأمين عليه الرحمة في الغدير ينقل عن صاحب الاستيعاب يقول: دخل أبو سفيان على الخليفة الثالث لما وصلت إليه الخلافة فقال له: (أما إنها كانت لتيم ثم من بعدها لعدي، واليوم قد جاءت لك، فاجعلها دُولة بين بني أمية وثبت أوتاد هم في ملكك).
💥نظرة أبو سفيان نظرة قبلية يصنف المسميات السابقة تحت عناوين قبلية، وبدأت القضية القبلية تعود إلى أن استشرت في المجتمع الإسلامي مرة أخرى، واستحكمت في نهاية أيام خلافة الخليفة الثالث؛
💥ولذلك عندما وصلت الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) أراد أن يعالج هذا الواقع، وبذل جهودا كبيرة، فعندما وجد القضية القبلية استحكمت في المجتمع المدني، صنع مثل ما صنع النبي( ص) عندما رأى المجتمع المكي قبلي إلى النخاع، وهو غير قادر على معالجة هذه الحالة؛ هاجر من مكة إلى المدينة، وبنى مجتمعا جديدا على أساس مختلف،
✅وأميرالمؤمنين أيضا كذلك هجر المدينة، ونقل خلافته إلى الكوفة، وبدأ يؤسس المجتمع الكوفي على أساس مختلف عن الحالة القبلية.
✅عندما وصل أمير المؤمنين إلى الكوفة، كان نظامها نظام الأسباع الذي أسسه الخليفة الثاني، حينما بنيت مدينة الكوفة في عهده؛
🔺ونظام الأسباع نظام إداري وجغرافي تقسم فيه القبائل في الكوفة إلى سبع زوايا، ويترتب عليها مسألة الجهاد والغنائم، فأبقى أمير المؤمنين هذا النظام، لكنه بدأ يحرك المواقع القبلية، ويستبدل مواقع قبائل بقبائل أخرى، حتى تبدأ تذوب حالة التحالفات القبلية، وتنشأ شراكة بين المجتمع على أساس اللحمة الإيمانية، ونجح في ذلك إلى حد كبير، إلا أن قصر مدة خلافاته لم تمهله،
💥فجاء معاوية مرة أخرى، وبدأ يعيد نفس الكرة، ويكرس توزيع الكوفة على أساس قبلي محض.
📚ينص المؤرخون على أن معاوية قام بعمليات تهجير جماعية لبعض القبائل في الكوفة؛ ليغير التركيبة الديموغرافية للمجتمع الكوفي، فأمر زياد ابن أبيه سنة 51 للهجرة أن يهجر مجموعة من القبائل اليمانية ، وبعض القبائل من بطون ربيعة الموالية لأمير المؤمنين ، فهُجِّروا من الكوفة تهجيرا جماعيا، ونفوا إلى خراسان، ثم مارس معاوية بنفسه عملية التهجير، كما نص الطبري في تاريخه يقول:
🖊️(عمد معاوية إلى المستغربين في حب علي( يعني الموالين لعلي) فأخرجهم من الكوفة، ووطنهم في مناطق القبائل المستغربة في حبه أو المستغربة له، (وهؤلاء يعرفون عند المؤرخين بالنواقل يعني القبائل التي نقلت من مكانها و وضعت في مكان آخر)، فنقل معاوية بنو القعقاع بن عمرو الذي كان معروفا هو وقبيلته بالولاء لعلي (ع)، فنقله إلى منطقة إيليا في فلسطين حتى تكون قريبة من الشام، ووطنها في منطقة موالية له، واستبدل هذه القبائل بقبائل أخرى، ونقل بني دارم بطن من تميم، والشيبانيين بطن من بكر بن وائل، ووطنهم في الكوفة؛ لأن هؤلاء موالين له، فأتى بهم من شمال الجزيرة العربية من نجد ومن أطراف أخرى ووطنهم في الكوفة، فتغيرت التركيبة الكوفية، )
💥وهذا يوقفنا على جانب مهم.
📚نقرأ اليوم في كثير من الكتابات، ودائما ما تثار هذه المسألة أن الذي قتل الإمام الحسين هم شيعته من أهل الكوفة، وهذه مغالطة كبيرة جدا، و تنم عن جهل كبير بالقضايا التاريخية، وكثير من الخطباء والمؤلفين تحدثوا عن هذه القضية،
💥وما أريد أن أشير إليه هنا أنه وفق هذا التصوير الذي أشرنا إليه، اتضح أن أهل الكوفة في واقعهم القبائل الأكثر التي كانت تقطن الكوفة هي القبائل الموالية للأمويين، ولذلك عند بعض الباحثين كلمة دقيقة جدا يقول فيها:
🖌️(إن أكثر الشيعة كانوا في الكوفة، ولكن لم يكن أكثر أهل الكوفة هم الشيعة) هناك فرق بين العبارتين عندما نقول: (أكثر الشيعة في الكوفة، ولكن ليس أكثر الكوفة شيعة) فحينما نبحث عن الغلبة العامة من الشيعة نراهم قطنوا في الكوفة، لكن هل هؤلاء يمثلون أغلبية في الكوفة؟
📌بالطبع لا، بل يمثلون أقلية، ولذلك من نصر عبيد الله بن زياد، وتجمهر تحت راية عمر بن سعد هم من هؤلاء، ولذلك يعرف الإمام الحسين من قتله، وقد وصفهم بــ ( يا شيعة آل أبي سفيان)،
لكن مع شديد الأسف هذه الكتابات التي تحاول أن تلصق تهمة قتل الإمام الحسين بالشيعة أو بالكوفيين الغرض منها جانب واحد فقط؛ تبرئة يزيد بن معاوية من قتل الإمام الحسين، فتارة تلقى التهمة على عبيد الله بن زياد، وتارة على عمر بن سعد، وتارة على الكوفيين؛ والغرض هو تبرئة يزيد من قتل الإمام الحسين، مع أن القضية واضحة.
🟩 إذن فما ننتهي إليه من بعد هذا البحث المرتبط بالبنية الاجتماعية للمجتمع المدني والمجتمع الكوفي؛ نعرف أن اللعبة القبلية كانت حاضرة بقوة في حركة الإمام الحسين، وكان الأمويون وعلى رأسهم معاوية ومن بعده يزيد اللاعب الأول على مستوى هذا العامل، وظفوا الجانب القبلي توظيفا شديدا في المؤازرة والنصرة ضد الإمام الحسين،
✅وعلى العكس كان الإمام الحسين يتحرك من منطلق ديني بحت، ولهذا إذارجعنا إلى أنصار الإمام الحسين نراهم لا يتكدسون ضمن قبيلة واحدة.
✅هناك دراسة حول القبائل التي نصرت الإمام الحسين،تراها متنوعة؛ لأن الدافع والعامل الأساس الجاذب لنصرة الإمام الحسين هو الدين والعقيدة والإيمان والدفاع عن رسول الله وعن سبط رسول الله تماما كما هو الدافع في نصرة النبي وفي نصرة علي،
✅فإذن المنطلقان مختلفان؛ منطلق إيماني كان يمثله الحسين ومنطلق قبلي كان يمثله يزيد وأتباعه، وهذا يجيب عن تساؤل مهم جدا.
💥 عندما قرأنا الواقع الاقتصادي والقبلي في المدينة، عرفنا بأن تركيبة المجتمع المدني ما كانت تساعد على نصرة الإمام الحسين؛ فعلى مستوى الواقع القبلي يتحكم فيه الأمويون كما أشرنا، وعلى مستوى الواقع الاقتصادي في المدينة؛ كان الجانب الاقتصادي جانب رخاء والمتحكم فيه الأمويون أيضا،
💥 فما الذي يدفع المدنيين لنصرة الإمام الحسين، وهم يعيشون حالة الرخاء، والإمام الحسين يريد أن يظهر في مشروع غير معلوم العواقب؛ لذلك كان الذين انضووا تحت راية الإمام الحسين من المدنيين قلة جدا تكاد تكون معدومة.
✅ لما خرج الإمام الحسين من المدينة لم يخرج معه من المدينة إلا الهاشميون، والذين نصروا الإمام الحسين يوم كربلاء من المدنيين قلائل جدا ثلاثة أشخاص نص عليهم المؤرخون من الجهنيين من قبيلة جهينة التي كانت تعيش في أطراف المدينة خارج المجتمع المدني من أهل البادية في المدينة.
تعليقات
إرسال تعليق