ا. منصور الصلبوخ / رغيف الخبز .. لماذا نحبه إلى هذا الحد ؟


أطرق اليوم موضوعًا ليس بجديد ، فقد تطرقتُ إليه من قبل في أكثر من مقال ، وهو طبعًا يتكرر للأسف عبر قنوات التواصل ، وفي الواقع أنني ما كنت أرغب في فتح موضوع الخبز رغم قناعتي سلفًا بأن الموضوع مهم ويستحق عدة وقفات ، وفي هذا المقال سوف أضع شيئًا من النقاط على بعض أحرفه ، وإن كان رأيي قد عبَّرت عنه في مقالاتي السابقة ، إنما الشيء الذي أود إيصاله بعد كثرة التساؤلات هو ماذا يعني الدعوة إلى التوقف عن تناول الخبز ؟ ولماذا الهجمة الشرسة على رغيف الخبز ؟ مقاطع فيديو متداولة شارك فيها متخصصون وغير متخصصين بعضها يطالب بالتوقف عن تناول الخبز بجميع أصنافه والبعض الآخر فقط للخبز الأبيض ، بينما هناك أشخاص من طالبوا بالتوقف عن كل النشويات ، مثل هذه الأقاويل أو الرسائل موجهة بطريقة لافتة بالصوت والصورة تشجع على تبني خيارات غذائية معينة من خلال نشر الشائعات والبلبلة حولها ، مما أثر بصورة سلبية على ثقة المستهلك فيما يأكله . 

كم من مرة طالعتنا ، ولا تزال تطالعنا مثل هذه المقاطع التي تتضمن تحذيرات مثل : " توقفوا عن تناول الخبز  " مقولة طالما سمعناها ، وقد سُئلتُ كثيرًا عن مغزاها ، فكان جوابي طبعًا أنه سلوك سيىء ، بل وسيىء جدًا ، فنحن ضد إطلاق مثل هذا القول على عمومه ، فالمقولة بحاجة إلى تمحيص وإعادة نظر فقد اختلط الغث بالسمين فيها ، كون هناك أمور يجب توضيحها . اتهام النشويات بأنها من عوامل زيادة الوزن والسمنة وداء السكري ومشاكل صحية أخرى ، هو اتهام ليس في مكانه الصحيح ، فالنشويات ومنها الخبز تزود الجسم بعناصر الطاقة التي يحتاجها الجسم يوميًا ، وكذلك تحوي بعض أصنافها على مواد مانعة للسرطان بإذن الله تعالى . 

لقد كتب المتخصصون وتكلم المتكلمون وناظر المنظرون ، واختلفت الآراء وتباينت وتضاربت وجهات النظر ، فما أكثر ما نقرأ ونشاهد الحروب الكلامية المتكررة عبر قنوات التواصل التي أصبحت مرتعًا للجدل واختلاف وجهات النظر ، فوسائل التواصل تحدثنا أو تحذرنا من رغيف الخبز ، هي المثال الأكثر سطوعًا في هذا الشأن ، وما أكثر ما خلط الحابل بالنابل ، وقد تصدر أحيانًا من متخصص حين يغلو في توجّس الحذر فيما ينشر ، ويتراكم حوله خلافٌ طويل الأجل ، متعدّد الأبعاد ، فهناك من يعتقد أن الكبت والحرمان بمثابة تحدّ للرغبات ، وهذا صحيح في أكثر من مكان وزمان ، وهناك من يرى أن الأمر نسبيُّ القياس ، وجميعهم يدركون جيدًا مدى صعوبة تطبيق تلك المقولة ، وقد يكون الأمر مبالغًا فيه ، مسألة تستحق الوقوف عندها والتمعن فيها ، والردّ على حيثياتها ، ونبتعد عن مفازات التهويل والتخويف اللذين لا يخدمان الصحة في شيء ، وربما تجاوز البعض في حكمه ، دعونا نبتعد عن العموميات ونقول كلمتنا بقوة وصدق ونقترب أكثر لشيء من التفصيل ، وللحقيقة أصولًا ودراسات علمية لا يمكن تجاهلها . 

يقال: إن بين الجوع والإشباع وبين التذوق والاستمتاع فصلًا من فصول التحضر الإنساني ورقي الحس ، وقد اقترن ذلك المفهوم بالطعام وأصنافه وطرائق طهيه وإعداده ، إنه لمفارقة غريبة أن ينظر الإنسان إلى الذوق والتذوق في مأكله ومشربه بما قد يشكل خطرًا على صحته ، لأن المسألة ذوقية !! 

انطلاقًا من تلك المقولة وبدون دعاية للوسائل الطبيعية ، لا أخفيكم سرًا إن قلت إنني أُكثر من تناول الخبز بأنواعه كافة ، وبحكم عملي وخبرتي في مجال الغذاء أحرص على متابعة بعض ما يكتب عن الخبز والمخبوزات في الكتب والمجلات المتخصصة ، ولكن كثيرًا ما أقف حائرًا أمام الآراء المتناقضة وما ينشر عبر قنوات التواصل حول هذا الرغيف المشوق في طعمه ونكهته المعروفة وفوائده الصحية . 

بداية وقبل أن نقول رأينا في تلك المقولة ، يستحسن أن نلقي نظرة على الجانب الآخر لرغيف الخبز منذ الأزل من حيث إنه مرادف للحياة في كل حضارات العالم ، الغذاء الأساس للإنسان وشأنًا حياتيًا حاضرًا أبدًا ، وقيل فيه " لولا الخبز لمات الناس جوعًا " وتبرز أهمية مكانة الخبز في ما كنا نسمعه من عبارات توارثناها عن آبائنا وأمهاتنا مثل " أحفظ النعمة " أو " زوال النعمة " أو " احترام النعمة " في إشارة إلى الخبز ، شاهدت جدتي (لأمي) رحمها الله حين تمسك رغيف الخبز تقبّله وهي ترتجف وتتمتم بكلمات مبهمة شاكرةً ، قبل أن تأكله ، لذلك تعلمت منها الكثير .. تعلمتُ منها أهمية كسرة الخبز وغيرها من النعم ووجوب عدم إهدارها ، تعلمتُ من سيرتها ما يحول بيني وبين الحرمان من نعم الله تعالى . وأذكر أنه عندما كنتُ طفلًا لم أكن أرى كسرة خبز ساقطة على الأرض ، تلك الكسرة اليابسة كنت ألتهمها وأجدها ألذ من الشهد !! في هذا العصر الذي نعيش فيه صار مألوفًا أن نرى الخبز وغيره من النعم في حاويات القمامة ، ويالها من همجية قاسية تعيشها مجتمعاتنا ، هي علامة من علامات التخلف والقهر ، ذلك مذهب بعض الناس في مأكلهم ، وعلى تلك الهمجية التي يزعم الزاعمون أن مجتمعاتنا الإنسانية قد تحضرت !! 

اليوم قد لا نجد سبيل آخر غير الأغذية المصنعة والمعالجة ، فمظاهر العبث طالت كل مقومات الحياة ، هي حصيلة الذروة في التقدم العلمي الذي انعقد عليه الأمل واعتبر الملاذ الأخير لضمان توفر الغذاء انقلب ليصبح في رأي البعض عدوًا يهدد بمشكلة غذائية لا أحد يدرك إلى أين تنتهي ، إنها الكيماويات السامة والتقنيات الحديثة التي تعتبر سيئة من سيئات العصر ، فقد أتت معها الشرور أكثر مما جلبت من حسنات ، أصبحت تثير الخوف والقلق  أدى كل ذلك إلى تحميل جسم الإنسان الكثير من المخاطر الصحية ، المعروف منها والمجهول .. وأحدث خللاً وإرباكًا في قدرة الجسم على مقاومة الأمراض . إن الحاجة أصبحت ماسة للعودة إلى الطبيعة ، لكن الزمن يتغير بسرعة وسوف لا نجد لنا خيارًا إن لم نواكبه أو نسعى على الأقل لمواكبته ، وهذا لا يتأتى إلا إذا سلكنا الطريق الذي سلكه أجدادنا الذين عاشوا على أمجاد أطايب الطعام . 

ظل القمح عنصرًا أساسيًا في غذاء البشر ، ومند عقود عدة أدرك الباحثون أن نوعية القمح وتركيبته ومعالمه تغيرت بصورة متسارعة ، حتى أصبحت خليطًا من أشياء مختلفة بعضها جيد وبعضها سيىء وبعضها بين بين ، وهذا ليس بالأمر السار ، تلك الأشياء تحولت إلى شيء ضار ، ويبدو أن المعالجات شكلت عبئًا على صحة الإنسان .

إن الحديث عن الخبز صحي وغير صحي وما رافقه من ضجيج إعلامي ، هو ما نشهده دائمًا وللأسف .. فالكثير من المقولات مبالغًا فيها ، صحيح أن الخبز من النشويات المتهمة برفع السكر في الدم ، لكن لا يؤخذ الأمر على إطلاقه ، إذ إن مريض السكري بحاجة إلى 55% إلى 60 % من السعرات الكلية من النشويات ، فلا يصح القول بالامتناع عن تناوله إلا لمن يرضخ لبرنامج صحي معين " حساسية الجلوتين " وهذا أمر آخر ليس له مجال هنا ، وأنا في الحقيقة أعجب من سلوك أشخاص استطاعوا أن يحرموا أنفسهم من تناول رغيف الخبز الذي تقرأ فيه ما لا تقرأه في سواه ، لكنهم يتناولون الأرز والبطاطس والمعكرونة والفطائر والمعجنات وغيرها من النشويات ، وهم يدركون أن الأمر غير منطقي وسلوكهم غير سوي ! فهل التوقف أو الامتناع عن تناول الخبز يحسّن صحتهم ويلبي رغباتهم ؟ برأيي لاحيلة لي إطلاقًا في هذا الأمر ؛ لأنني لو أعمل المستحيل فلن أجد البديل المناسب ، وأعني بالبديل وجود خصائص حسية للخبز مثل الطعم والرائحة والشكل والاستساغة ، ولا أظن أن في كلامي أية مبالغة ، فمعظم الأطعمة تؤكل بالخبز ، كما أن الخبز الأبيض رغم محتواه من الإضافات الكيميائية يتهافت الناس على تناوله لكونه أشهى من الخبز الأسمر . 

ما خرجت به نتائج إحدى الدراسات أن الحرمان الحاد يعرض المحرومون إلى حالة كآبة نفسية ومزاج سالب أو غير سوي أي " معكر المزاج " ، وما نشاهده من مرتادي المخابز والبوفيهات والمطاعم يثبت حجم الإقبال على المخبوزات والمعجنات بشتى أنواعها ، وهؤلاء المنظرون والمتفلسفون لديهم أسباب متداخلة قادتهم لعدم تناول الخبز منها أمور شخصية ، ومغالطات منطقية ، نعم هؤلاء الذين يصنفون أنفسهم بأنهم من المتخصصين ، هم لا يعرفون إلا القليل عن علوم الأغذية ، أنهم يستعرضون لمشكلات صحية في غاية الخصوصية مرتبطة بحالات فردية وسلوكيات خاطئة بإظهار التحسن الصحي وربطه بالخبز لمن يعانون مرض السكري ؛ فيه شيئًا من المبالغة ، فليس كل من يعاني السكري عنده المشكلات نفسها التي عند الآخر سواء من الناحية المرضية أو من ناحية طبيعية ارتفاع السكري في دمه ، هؤلاء الأشخاص أسرفوا في التهام النعم .. ثم صبوا جام غضبهم على النشويات البريئة من جرائمهم ، ويظنون أن الناس لا همَّ لهم إلا التوقف عن تناول الخبز ، وسرعان ما يصابون بخيبة أمل ويقفلون افواههم وحملاتهم غير الموفقة !!

في السنوات الأخيرة بدأنا نسمع أقوال أشخاص عن علوم الغذاء والتغذية ليست واضحة الإتجاه ، يبدو أن هؤلاء المتخصصون وغير المتخصصين قد أصيبوا بالجنون ، فلا يكاد أسبوع يمر دون أن يصدر أحدهم تقريرًا مفاده أن نوعًا معينًا من الطعام يتسبب في مشاكل صحية ، وعادة ما تكون تلك التقارير أو النصائح مناقضة للقديمة .  

إننا اليوم في عصر غدا فيه الغذاء والتغذية هاجسًا يطارد الكثير من الناس إن لم يكن معظمهم ، ولكن الكل يتناوله من منظوره الشخصي وما تمليه عليه طباعه وشخصيته وثقافته ووعيه ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل يجب علينا أن نقلد المنظرين في سلوكهم الغذائي ونطير وراءهم لكي نحصل على الصحة ؟ الجواب طبعًا لا ، فنحن نستطيع بأغذيتنا الاعتيادية أن نحمي أنفسنا من الأمراض مع تلبية حاجاتنا من التذوق والاستمتاع ، المهم إننا لا نحتاج تقليد الآخرين في سلوكهم الغذائي ، وهذا يقودنا إلى تأكيد أهمية وجود رغيف الخبز على موائدنا ، فالله سبحانه وتعالى لم يسخره لنا عبثًا وطالما أن الإنسان لا يشتكي من أي مشكلات تحول دونه ودون تناول الخبز ، فلا داعي للتوقف عن تناوله فهو مقبول صحيًا إذا أخذ ضمن غذاء متوازن . 

على كل حال لا يزال البعض يرغب في تناول الخبز العربي المعهود لدينا والفارق بينه وبين الخبز الفرنجي يكمن في المقام الأول في المضافات والمحسنات الأصطناعية ، وعليه فإن الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية لديهم البديل وهو الخبز العربي الخالي من محسنات الخبز . ومع هذا فطعمه جيدًا . كذلك هناك كثير من الناس يعتقدون أن نظامهم الغذائي صحي وسليم ما داموا لا يتناولون الخبز الأبيض ، وهم لا يدركون أن الخبز الأسمر أو النخالة منتج من حبوب القمح المعالجة ، غنية بالسكريات والنشويات والمضافات الأصطناعية ، تدَّعي بأنها من حبوب القمح الطبيعية . ونحن لا نحبذ إثارة مثل هذه الزوابع العامة عن الخبز ، وهذا لا ينفي أن الخبز العصري قد يسبب مشكلات صحية للإنسان ، ولكن القاعدة العامة التي نطالب بتطبيقها هي أن الإفراط في تناول الخبز لا الامتناع عنه .

عطفًا على ما سبق وصلنا إلى الآراء المعقولة حيال هذا الرغيف المفيد المرادف للحياة ، والأكثر جذبًا وألذ طعمًا وأطيب نكهة ، وبكل بساطة ينصح بتناول الخبز بشتى أصنافه ، فاليوم مظاهر العبث طالت كل مقومات الحياة ، والابتعاد عنها أمر صعب إلا إذا كانت هناك دواعي طبية لذلك . وإذا كان التوقف عن تناول الخبز مفيدًا للمصابين بمرض السكري وغيرها من الأمراض فمن المنطقي أن يكون مفيدًا للجميع ، وربما كان ذلك صحيحًا ، ولكن أظهرت دراسات أن المسألة بعيدة عن كونها قاطعة ، لقد انتهت عند الأشخاص الذين يعانون من سكر مرتفع لم يستفيدوا من الإقلال من استهلاك المخبوزات ، فاحرص على وجود الخبز والشابورة والصامولي بشتى ألوانه الأبيض أو الأسمر ، وأصنافه العربي أو الفرنجي ، ونكهاته المختلفة الذي شكل عالمًا وافرًا باللذة ، ومع الهجمة الخبزية لعشرات أنواع الخبز العصري في بلداننا هل نملك الشجاعة الكافية ونتبع تلك المقولة المغلوطة ، اليوم مفتونون بتشكيلات الخبز الفاخرة ومسمياتها التي أصبحت ضمن قائمة أغذية الذوق الرفيع لم نعهدها .. ومند قدوم المخابز الحديثة والناس لا حديث لديهم سوى الخبز الذي يصعب صنعه ويغلو ثمنه .

وأخيرًا ، قرار التوقف عن تناول الخبز يعني التوقف عن كل شيء يدخل فيه القمح كمكون رئيس مثل معظم الأكلات الشعبية والعصرية التي تصنع من دقيق القمح والمخبوزات والمعجنات والفطائر ، نحن نطالب بالاعتدال لا إفراط ولا تفريط وليس الحرمان الذي يتسبب بأضرار نفسية قد لا يتحملها الشخص إلا بضعة أيام . 

ما أحوجنا اليوم قبل الغذ إلى غرس تلك المفاهيم وسط مجتمعنا وفي عالم تسوده حماقات المنظرين والمتفلسفين ..! 

منصور الصلبوخ  - أخصائي تغذية وملوثات .

تعليقات