العزوبيـة الاختيارية تجذب أنظار الجنسين
قراءة - د. مناحي الشيباني / جريدة الرياض
باتت العزوبية الاختيارية، تشكل هاجساً يهدد الأمن الاجتماعي للمجتمعات اليوم، ويفرز العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية التي تهدد بنية الأسرة والمجتمع، وأصبح مفهوم «العزوبية الاختيارية» أو العزوف عن الزواج من قبل أحد الجنسين دارجاً بين الشباب اليوم في مجتمعاتنا العربية، وباتت تتوسـع رقعتها يوماً عن يوم في مجتمعنا المحلي، وتتغذى هذه الحالة على عاملين أحدهما يمثل عاملاً إيجابياً وهو عامل الاستقلالية التي اكتسبتها الفتاة الموظفة سـواء إزاء أسـرتها أو قـدرتها المادية، وباتت الفتاة اليوم هي من تحدد نسبة العنوسة في المجتمع، عما كان سائداً ومتعارفاً عليه في السابق، أمّا العامل الثاني في قضيتنا اليوم التي تستعرضها «الرياض» وهو العامل السلبي والذي تلعبه وتتحكم به ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي تحديداً فبات لها دوراً كبيراً في تشكيل صورة الفتاة لدى الشباب، بإعطاء صورة مغلوطة، ووصمها بسلوكيات لا تتوافق مع واقعها ولا تماثل الحقيقة عنها بتجريدها من أنوثتها، وما ينطبق على ما يظهر في مواقع التواصل الاجتماعي عن بعض الفتيات اليوم، لا يعكس واقع كثير من الفتيات حقيقة، حيث تؤكد الإحصاءات الرسمية، أن الفتيات اليوم أثبتن جدارتهن وتحملهن للمسؤولية، في كافة القطاعات التعليمة، والصحية، والأمنية، ولا تعكس تلك الصورة التي تظهر في المشاهد التي تبثها مواقع التواصل الاجتماعي سوى حقيقة وواقع من يرتكبها بسبب ظروفه الخاصة التي يعيشها لعوامل نفسية لديه أو مشكلات أسرية داخل دائرته المحيطة به.
تهدد بنية الأسرة والمجتمع وتزيد العنف والتطرف السلوكي
أسباب متداخلة
وتؤكد الدراسات الحديثة أن هنالك عوامل متداخلة لعبت دوراً كبيراً في تأخر سن الزواج بين الجنسين، وساهمت في بروز ما يعرف اليوم بالعزوبية الاختيارية بين الجنسين، وتختلف هذه العوامل من بلد وآخر، لارتباط تلك العوامل بأوضاع تلك البلدان، ونسبة فئة الشباب من الجنسين فيها، وتشكل العوامل السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية دوراً كبيراً في التحكم بنسبة الزواج، والعنوسة دولياً، كما تلعب العوامل النفسية الذاتية دوراً كبيراً في التحكم في سن الزواج، وتدخل مواقع التواصل الاجتماعي لتشكل عاملاً جديداً وخطيراً في ترسيخ وتدعيم الهوية الشخصية لدى الجنسين، وتكوين الصورة الذاتية للفرد، ونظرته للطرف الآخر، ورسم صورة ربما تكون مخالفة للواقع بتعميم الفكرة المغلوطة عن الطرف الآخر، أو حتى عن مفهوم الزواج بشكل عام، مما يلعب دوراً كبيراً في التحكم في نسب الزواج المبكر عند الجنسين أو تأخيرها من خلال تشكيل وجهة نظر الطرفين وتحديد رغباتهم، والتحكم في مشاعرهم النفسية تجاه الجنس الآخر، والحكم المسبق عليه بالقبول أو الرفض.
«الشورى» طالب بأهمية العمل على معالجة الخلل الاجتماعي المرتقب!
تغيرت المعادلة
وفي السنوات الأخيرة تغيرت معادلة تحديد مفاهيم الزواج وسن الزواج، وقضية العنوسة، أو العزوبية الاختيارية، وأصبحت الفتاة خاصة في مجتمعنا تلعب دوراً كبيراً في تحديد السن المناسب للزواج، عما كان عليه في السابق، والذي كان الرجل هو المسؤول عن تحديد سن الزواج، وكان يطلق على الفتاة التي يفوتها القطار بالعانس، أمّا اليوم وخاصة في المجتمع السعودي أصبحت الفتاة تفضل تأخير سن الزواج بسبب الإقبال على التعليم، وأيضاً انشغال المرأة بالوظيفة، ورغبتها في تحقيق مكانة اجتماعية مرموقة، ومنافستها للرجل يشكل نسبة عالية، حيث ارتفعت نسبة غير المتزوجات، وأصبح عمل المرأة متنوعاً، ولم يعد مقتصراً في قطاع واحد كالتعليم أو الجانب الصحي كما متعارف عليه في السابق، بل أصبحت المرأة تعمل في كافة المجالات خاصة في المجالات الأمنية التي كانت محصورة على الرجال، كما أصبحت الفتاة تختار تأخير سن الزواج لمساعدة أسرتها على المعيشة، أو الاستقلال بنفسها مادياً، مما ساهم في تأخير سن الزواج لدى الفتيات برغبة منهن.
نظرة مشوشة
وكما أسلفنا في السابق كان من يتحكم في تحديد سن الزواج هم فئة الذكور الشباب، حيث كانت نسبة من الشباب ممن يتسببون في تأخير سن الزواج لدى الفتيات هم من يتصفون ويمتلكون النظرة السلبية أو المشوشة عن مفهوم الزواج ويشعرون بثقل المسؤولية ويعتبرون الزواج قيداً وعبئاً يضاف إلى أعبائهم في الحصول على وظيفة أو التأقلم مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وتحمل الديون، فيما تسهم فئة كبيرة من الشباب في تحمل مسؤولية الزواج، وربما التعدد، وكانت الفتاة في تلك المرحلة تنظر إلى الزواج على أنه الخلاص من قيود الأهل والظروف الاجتماعية القاهرة لها، وربما في تلك الفترة من الزمن كانت الفتاة تواجه عدة عقبات تسبب في تأخير زواجها من الأهل مثل قضايا العضل، أو الحجر، ورفض المتقدم للزواج بسبب عدم كفاءة النسب، وغيرها من المشكلات التي كانت تواجه الفتيات أو كانت تواجه الشباب.
اضطرابات عقلية
وبعد تولي الفتيات دفة القيادة اليوم، وعدم رغبة نسبة كبيرة منهن في الزواج لكثرة المغريات من توفر الوظيفة المرموقة، وكثرة فرص الابتعاث للخارج أو الداخل لاستكمال التعليم في الدراسات العليا، والتمتع بالقيادة، وحرية السفر، أو حتى اختيار شريك الحياة الجديد من عدمه، تغيرت نظرة الشاب للفتاة أو شريكة الحياة المستقبلية، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي تروج بصور سلبية عن الفتاة، وعن فارسة الأحلام، فلم يعد مقياس الجمال هو المطلوب لدى الشاب اليوم، بل أصبحت نظرة الشاب في الغالب إلى المقياس المرتبط بالقيم والأخلاق، وسلوك الفتاة، ومع كثرة الصورة السلبية التي يراها الشاب اليوم من مقاطع، وأحداث سواء محلية أو خارجية، برزت لدى الشاب حالة من التشاؤم نحو فكرة الزواج المبكر، وأسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تجريد الفتاة من أنوثتها وخلقت «فوبيا» لدى الشباب من الزواج، وبرز بين الشباب ما يطلق عليه مفهوم العزوبية الاختيارية وعدم الارتباط، وبرزت موضة أو فكرة الصداقة بين الجنسين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو صداقة العمل، أو الدراسة وغيرها، وتلك النماذج من الارتباط أثبتت فشلها عربياً، وعالمياً، حيث أكدت حوادث عربية وعالمية أن تلك المفاهيم المغلوطة عن فكرة الزواج تهدد الأمن الاجتماعي وتفرز مشكلات نفسية واضطرابات عقلية لدى الجنسين، ينتج عنها ارتكاب عدة جرائم تصل في الغالب إلى القتل، وتنتهي العلاقات بين الجنسين بالخلاف قبل الزواج، ويترتب عليها أمراض نفسية تضر بالجنسين، وتقلق الأسر، والمؤسسات المجتمعية.
خط دفاع
وبين العنوسة وتأخر سن الزواج علاقة ارتباطية عكسية بالأمن الاجتماعي، لهذا الأمن أهميته العظمى في حفظ استقرار وتوازن المجتمع، حيث يعرف الأمن الاجتماعي على أنه شعور الفرد أو الأفراد بالأمان في كل مكان ضمن حدود المجتمع، سواء في المنزل أو الشارع أو العمل، ويضمن الأمن الاجتماعي للفرد أن يعيش حياته الاجتماعية والاقتصادية دون خوف من أي خطر أو اضطراب يهددها، وباعتبار الزواج أحد العوامل المهمة في تكوين الأسرة التي بدورها تعتبر من أهم العوامل المحققة للأمن الاجتماعي، حيث تعتبر الأسرة الدائرة الصغرى التي ينشأ فيها الفرد، والخلية التي يتكون منها نسيجه، والخلايا إذا صلحت صلح النسيج كله، فعندما يقع عقد الزواج في وقته المتعارف بين الجنسين دون تأخير، فالنتيجة تكون تكوين أسرة قائمة على أسس متينة تؤثر تأثيراً فاعلاً في ترسيخ مقومات الأمن الاجتماعي، وتؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية وازدهارها حيث تصبح الأسرة هنا بمثابة خط الدفاع الأول عن أمن المجتمع، حيث يتوفر في هذه الأسرة الصحية الجو العاطفي بين الزوجين المبني على الأسس النفسية السليمة، ويتربى الأطفال على تربية سليمة، مبنية على الرأفة والرحمة والرعاية الشاملة، وتكون هذه الأسرة من العوامل التي يعتمد عليها المجتمع في الحفاظ على تماسكه، أمّا إذا تأخر سن الزواج لدى الشباب والفتيات، وتفاقمت مشكلة العنوسة الاختيارية، فإن ذلك يشكل عبئاً اجتماعياً، يتولد عنه آفات كثيرة وخطيرة، من أبرزها الجرائم الأخلاقية، وانتهاك الأعراض، أو نشوء العلاقات أو الصداقات المحرمة بين الجنسين، أو جرائم القتل التي تنشأ بين الطرفين بعد فشل الزواج لأسباب نفسية، أو شك بين الطرفين، وبسبب نشوء فكرة العزوف عن الزواج أو بروز فكرة الصداقة قبل الزواج، ينشأ جيل يجهل بأسس الحياة الزوجية السليمة وآدابها، مما يسهم في ضعف التوافق بين الطرفين وينتج عنه ارتفاع نسبة الطلاق، مما يتسبب في كثرة الخلافات العائلية بين أقارب الزوجين، ويحدث ما يطلق عليه بالجرائم العائلية، مما يؤدي إلى خلل في الأمن الاجتماعي.
الشورى يحذر
وقبل أربعة أعوام تقريباً أطلق مجلس الشورى تحذيراته من مشكلة العنوسة، وعزوف الشباب عن الزواج وقدم اثنان من الأعضاء مقترح نظام مكافحة العنوسة، وشهد جلسات مجلس الشورى عدة مناقشات لهذا المقترح الذي تقدم به في تلك الفترة أعضاء المجلس هما سمو الأمير الدكتور خالد المشاري؛ والدكتور منصور العقيل؛ بعد دراسة لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب النظام المقدم من العضوين، وكان ذلك المقترح آنذاك يشتمل على أربع عشرة مادة، وجاء في المسوغات التي تقدم بها العضوان، أنه يقدر عدد سكان المملكة بـ(32.552.336) نسمة لعام 1438هـ /2017م مقارنة بالمسح الديموغرافي لعام 2016م البالغ (31.742.308)، بمتوسط معدل نمو سنوي (2.52 %) ويتوزع هؤلاء السكان حسب الجنس بما نسبته (57.48 %) ذكوراً، و(42.52 %) إناثاً من جملة السكان في عام 1438هـ /2017م، وبلغ عدد السكان السعوديين وفقاً لنتائج المسح (20.408.362) نسمة في عام 1438هـ /2017م، أي بنسبة (62.69 %) من جملة سكان المملكة لعام 2017م، مقارنة بـ(20.064.970) نسمة في عام 1437هـ /2016م، وذلك بزيادة مقدارها (343.392) نسمة، أي بنسبة متوسط معدل نمو سنوي (1.71 %) وهي نسبة نمو متوسطة جداً ومقلقة؛ لأنها أصبحت تماثل معدلات نمو السكان الأوروبيين الغربيين وما يعانونه من خوف في فقدان هويتهم وتركيبة مجتمعاتهم وثقافتهم الوطنية لمصلحة المهاجرين إليهم من جنسيات وثقافات مختلفة، إذ إن متوسط معدل نمو سنوي بنسبة (1.71 %) هي حالة انكماش ملحوظة في عدد المواليد السعوديين مقارنة بنسبة كانت (3.79 %) لتعداد (1974-1992م) ويطرح هذا المتغير في مسار معدل نمو السعوديين على المخططين الإستراتيجيين أهمية العمل على معالجة هذا الخلل الاجتماعي المرتقب حتى لا تفقد المملكة مقوماتها وخصائصها وثقافتها المجتمعية في السنوات القليلة المقبلة، وهو ما دعا اللجنة إلى طرح مشروع «نظام مكافحة العنوسة والطلاق» وسبل معالجة التحدي القادم، لعدم وجود جهة مركزية مستقلة منظمة ومتابعة ومنسقة للإستراتيجيات المطلوبة في مواجهة وحل تحديات، وكذلك لتزايد معدلات العنوسة والطلاق وانعكاساتها على حجم وتركيبة السكان بتبعاتها على النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية وكذلك تفشي ظاهرة تاخر زواج الشباب والشابات وهي حالة هروب الشباب من المسؤولية الزوجية والإحجام عن الزواج؛ ما أسهم في تفاقم ما يُطلق عليه في البحث الاجتماعي «العنوسة».
تبعات اجتماعية
وتزامن ذلك مع ارتفاع اعداد ونسبة الطلاق في المجتمع، وهما يشكلان معضلتين لهما تبعات اجتماعية واقتصادية وأمنية خطيرة على مقومات أي دولة، ومن نتاج ظواهرها الاجتماعية انعكاساتها في تقويض أركان لحمة وتفكك الأسرة، واقتصادياً تغذية ظاهرة الأنانية الفردية بالبُعد عن المسؤولية وتكاليفها المعيشية، اما انعكاساتهما الأمنية الوطنية فتكمن في مساهمتهما المباشرة في خفض نسب المواليد وانكماش حجم القوى البشرية من المواطنين واختلال التركيبة السكانية في تزايد تعداد السكان غير السعوديين، واقترحت اللجنة لمعالجة هاتين الظاهرتين وجود نظام تصحيح تفاقم هاتين المعضلتين تحقيقاً لسلامة الأمن الاجتماعي والسياسي والثقافي ونماء مجتمع متجانس يحافظ على تراثه وقيمه، وهذا لا يتحقق الا بنسبة كبيرة وغالبة من السكان السعوديين، ومن أهداف المقترح مكافحة تفشي ظاهرتَي العنوسة والطلاق؛ لحماية المجتمع وتركيبته السكانية والحفاظ على هوية المجتمع وثقافته الوطنية وتعزيز الأمن القومي والسلم الاجتماعي.
مجالس الأسرة
وطرحت «الرياض» عدداً من أساليب معالجة مشكلة العزوبية الاختيارية منها: تفعيل دور مجالس شؤون الأسرة لتوعية أفراد الأسرة بأهمية الزواج المبكر، وتشجيع تنظيم الزواج الجماعي، وإعانة الأزواج على إقامة الزواج والمساهمة في تيسير أمو حياة الأسر، والتوسع في الجمعيات التطوعية المشجعة على تيسير الزاج المبكر للجنسين، وتوعية الشباب بأن الزواج غير مرتبط بالوظيفة ودخلها، وكذلك إيجاد موارد مساعدة للشباب الراغبين في الزواج، وإدخال مواد علمية في المرحلة الدراسية الثانوية والجامعية ترتبط بأهمية الزواج المبكر وتكوين الأسرة، والتشجيع على القبول بما هو ميسر لا كمال الحياة بعد الزواج والمحافظة على الحياة الزوجية، والإسهام في تمكين وإرشاد الأسرة من خلال مبادرات تنموية مستدامة، والتوسع في الخطط الشاملة التي تشجع الشباب على الزواج، وتكافح شبح العنوسة، وتأخر سن الزواج لما لها من علاقة ارتباطية عكسية بالأمن الاجتماعي.
ومن الآثار المترتبة على تأخير سن الزواج خلل في الأمن الاجتماعي في المجتمع، وتنامي ظاهرة العنوسة عند الفتيات، وتصاعد نسبة الجريمة بين الجنسين، وتفاقم مشكلات التفكك والعنف الأسري، داخل الأسرة الواحدة، وكذلك ارتفاع في معدلات الأمراض النفسية، ومشكلات إدمان المخدرات أو التدخين، وتأخر نسبة الخصوبة لدى الجنسين، مما يؤثر على ثروة الوطن المعتمدة على فئة الشباب، وزيادة التطرف والعنف السلوكي، والتمييز بين الجنسية
تعليقات
إرسال تعليق