شرفتُ عام 2014م بتقديم برنامج ناقشت فيه الشأن السعودي العام مع نخبة من المختصين والأكاديميين، وذلك على الهواء مباشرة في منصة «يوتيوب» وبشكل أسبوعي. وفي الحلقة السابعة عشر طرحت موضوع الحداثة في السعودية، وكان ضيفا الحلقة هما: الشاعر محمد زايد الألمعي، والقاص والكاتب سعد الدوسري. ورغم مضي سبع سنوات ونيف على تلك المقابلة، إلا أنه وبالعودة لها، سيجد الباحث/ة أزمة ظلت ماثلة في المشهد الثقافي السعودي، وغالب الأقطار العربية، وهي لا تختص بمفهوم الحداثة لوحده، وكل ما صاحب تلك الحقبة، سلبا أو إيجابا، ولكن الأمر لازم كل مصطلح أو مفهوم فكري فلسفي خرج من ميادين البحث والمُدارسة إلى ميادين النقاش العام، وتولى مهمة الحديث عنه والتنظير له المناوئون، والذين سعوا إلى تبسيطه ونقله في صورة مشوهة.
ولعل مفهوم الحداثة خير مثال من الممكن تناوله عند شرح هذه الإشكالية، فهذا المفهوم الشائك والمحمل بالكثير من التعبات؛ نظراً لخروجه من رحم سياقات صقلته وقدمته بصوره متحركة تحتاج دائما إلى البحث والمراجعة، نجده وقد وصل إلينا في نسخة معلبة تم حصرها في القالب الأدبي، على الرغم من أنها متغلغلة في الكيانات التنظيمية والتشريعية، إلا أن ذلك تم صرف النظر عنه ووصفه بمصطلحات أخرى، مثل: تجديد وتطوير، أما مفهوم الحداثة فهو أمر يخص الأدب والنقد، لا أكثر ولا أقل. ولن أعيد كلام ضيفي في حينه، وهو أن أحد أزمات الحداثة كان توصيفها كحالة نقدية ومدارس فنية، دون الذهاب إلى ما هو أبعد، تماماً كما اخترعت الحداثة، كمفهوم ودلالة.
إن هذا الشرخ عند نقل المصطلح، جعله مضطرباً ويعاني من إشكاليات مفاهيمية ووصفية، واتضح ذلك أكثر ما إن خرج من دائرة النخب، والتي لم تبرح في صياغته وجعله – قدر الإمكان – ابن البيئة التي سيغرس فيها. بالتأكيد لم يكن منطقياً خلق عالم سري سفلي للاحتفاظ بهذه المصطلحات بعيدا عن مرأى ومسمع الجماهير، ولكن الإشكال أن هذا المصطلح، وغيره من المصطلحات، مثل: العلمانية والليبرالية والقومية والاشتراكية والشيوعية.. لم يتصدر تقدمها للجماهير المؤمنون بها، ولكن ظلت طبقة المثقفين تحدت نفسها بها من جهة، ومن جهة أخرى حُجبت عن أخذ الفرصة كاملة لعرض فكرتها على الجمهور. وعن الجزئية الأولى، فهذه مشكلة عامة تلاحق المثقفين العرب، فكثير منهم إما منعزل في طرحه عن أي تفاعل عضوي مع المجتمع، ويفضل أخذ صفة المنظر العاجز عن توصيف الحلول والالتحام مع الطبقات الاجتماعية، أو الانغماس في عوالم الجماليات والتلاعب اللفظي. أما الجزئية الثانية، فهي نتيجة حتمية لمفاهيم ومصطلحات مبتورة في النقل والتطبيق.
إن ابتذال المصطلحات والمفاهيم وتقديمها كحق مشاع، جعل العالم والجاهل بها متساويان، ما أوجد حالة من عدم التواري من التنظير عنها وبالتالي إطلاق الأحكام عليها، ما حولها من مفاهيم معقدة إلى مرادفات تقدم في كبسولة توجز كل هذا الجهد المعرفي في كلمة واحدة، مثل: انحراف، انحلال، فصل الدين عن الدولة، كفر، زندقة. وبالتأكيد فإن هذه الكبسولة المخلة أكثر قدرة على الانتشار بين الجماهير من الكتب والمحاضرات والحلقات الفلسفية والجهد البحثي، والتي فشلت في خلق جبهة مقاومة لهذا الابتذال. من اللافت أننا حاليا، نعيش حالة من الهدوء في المجال العام، فبات من الممكن إعادة تقديم المصطلحات بطرق وآليات أكثر فاعلية، إلا أن السؤال: هل يجرؤ المثقف الآن على المبادرة بعد أن ظل لعقود يطالب بفرصة يقدم فيها أطروحاته بالطريقة الصحيحة وسط مناخ لا ينبذه؟، لا زال البحث جاريا!.
تعليقات
إرسال تعليق