حسن المصطفى - جريدة النهار
في العام 2008، نشرت "دار الساقي"، الطبعة الأولى من كتاب "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، للمفكر السوري الراحل جورج طرابيشي.
طرابيشي استهل كتابهُ بعبارة للإمام علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه)، جاء فيها: "نعوذُ باللهِ من سباتِ العَقل".
الجملة المختصرة التي وردت في "نهج البلاغة"، كأنها تحاول منذ البدء وضع حدٍ أمام الخرافة التي ستستشري في عقولِ مجتمعاتٍ واسعةٍ من المسلمين، باختلاف مذاهبهم، سنّة وشيعة. وكأن الخرافة التي تتولدُ كنتاج طبيعي لتغييب العقل، هي ما يخشى منهُ الإمام عليّ، الذي يروي عنه كُميلُ بنُ زيادٍ النَخعيُ، قصة ذاتِ دلالة، ينقلُها الدعاةٌ باستمرار وتكرارٍ أجوفٍ، من دون الوقوفِ على مضامينها العميقة. يسردُ كميلٌ، قائلاً: "أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحرَ تنفّس الصّعَدَاء، ثمّ قال: يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ المَالَ. وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ. يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الَعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ".
سرديةُ النخعي تجلي للفاحصِ مركزية "العلم" لدى عليّ، الذي يفتخر الشيعة بحديثٍ يروونه عن نبي الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، أنه قال: "أنا مدينة العلمِ وعليٌ بابُها". وهو الحديث الذي تناقلته العديد من كتب المحدثين بمختلف مذاهبهم. تفاخرٌ يدعو إلى السؤال عن مدى تمثلِ أتباعِ عليٍّ علمهِ، أم أنها مجردُ مفاخرة في ميدانِ المساجلاتِ المذهبية!
عليُّ بن أبي طالبٍ، الذي احتفل المسلمون الشيعة بذكرى مولده، في 13 رجب، يُقدمونه كأمثولة للعلم، الفقاهة، والعقل الوقاد، الذي كان يلجأ اليه الصحابة بُعيد وفاة النبي محمد، وكان الخلفاء الراشدون يأخذون بمشورته؛ حيث ينقلُ كتابُ "بحار الأنوار"، قول الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه): "لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن"، كما ورد في "تاريخ البلاذري".
فاطمةُ بنت أسدٍ الهاشمية، زوجة أبي طالب عمِ الرسولِ محمد، عندما جاءها مخاض الولادة، أثناء حملها بابنها عليٍّ، كانت قرب البيت العتيق، فدخلت "الكعبة" حيث وضعته هناك، بحسب الرواة. ولذا تلازم مولده مع "البيت الحرام" في الموروث الشيعي، وكأنهما صنوان: كعبةٌ للإيمان والإمامة.
وليدُ "الكعبة"، وفي ذكرى ميلاده، لفتَ الأنظارَ مجسمٌ لـ"قبلة المسلمين"، وضع في حرمِ الإمام الحسين بن علي في مدينة كربلاء العراقية، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي فيديوات يظهرُ فيها عددٌ من المؤمنين يتبركون بهِ، وآخرون بدا عليهم الحنين الأخاذ لزيارة مكة المكرمة للحج والعمرة، وآخرون يتندرون على المشهد العام، أو ينتقدون ما يرونه ضرباً من العبثِ!
هناك مبدأ لا بد من التسليم به، وهو حق البشر في التعبير عن آرائهم وإيمانهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، من دون إكراهات أو تكفير أو تحريض عليهم. وفي الوقت نفسه، حق البشر في النقد ودراسة وتفكيك الظواهر الدينية بحرية، وعلمية، من دون أن تكون هنالك قيود على التفكير، فلا شيء مقدساً.
مجسمُ الكعبة أزالته لاحقاً "العتبة الحسينية"، وبينت أنها ليست الجهة التي أقامته، وإنما أحد المواكب التي كانت تعد لمشهدٍ احتفالي.
هذا الحدثُ، يمكن قراءته وتحليله، والتوقف عند النقاط التالية:
1- هناك حالة احتقانٍ طائفي، لا تزال موجودة بين جمهور من المسلمين. وقد تجلى ذلك في التحريض الطائفي ضد الشيعة، من خلال بعض المعلقين، واستخدام عبارات قدحية مثل: الروافض، المجوس، الكفار... وهذه الألفاظ هي نوع من "العنف المادي" و"العنصرية" التي تتنافى والقانون الدولي الذي يمنع الكراهية ويُجرمها. وطالما لم يتم التخفف من "الخطاب الطائفي"، والشعور بالتفوق والغلبة لدى شريحة من المتمذهبين، فإن الصراعات الطائفية والقتل وعمليات التفجير سوف تستمر.
2- هذه اللغة النقدانية التكفيرية التي مارسها البعض، ووجهت برد فعلٍ سلبي، مذهبي، رمت الآخرين بأوصاف ازدرائية، مثل: أحفاد يزيد، النواصب، الأمويين... ما يعني أن الثنائية المتصارعة مستمرة في مواجهاتها اللفظية، وأن الدفاع عن الذات عوضَ أن يتحلى بالمنطق والعقلانية، ذهب صوب الغرائزية والصوت الأعلى، وهو ما يدفع كرة النار أكثر نحو الاشتعال!
3- تم تسييس الجدل، وتحويله ورقة في مماحكة سياسية بين فريقين. وهذا النوع من النفعية في الاستخدام المقصودِ لسلوكٍ بشريٍ ذي صبغة دينية، إمعانٌ في اندكاكِ الدين في السياسة، ما يجعل عملية التفريق بينهما أكثر صعوبة وتعقيداً، في وقت المسلمون بأمس الحاجة إلى عدم الزج بالعقائد في الخلافات الحزبية والسياسية.
4- كل ذلك ينبئ بتراجع واضح لدى عموم المسلمين في التفكير الهادئ العقلاني التحليلي البعيد من العواطف والشتائمية، وغلبة عقلٍ انعزالي، يعتقد أن الحقائق الصرفة هي التي توافق سرديته، وما عداها باطلٌ ومجرد هرطقات. وهذا العقل "الخرافي – الصراعي" الذي يسيطر على شرائح واسعة من المجتمعات، جذره واحد: الوثوقية، الإقصاء، التسليم بأقوال السلف، واعتزال النقد الذاتي.
5- الإغراق في الطقوسية، باتَ ظاهرة مقلقة في الفضاء الإسلامي الشيعي. فعوض أن يحتفل بذكرى ميلاد عليّ بن أبي طالب، من خلال ترسيخ قيم العدالة والعقل والمناقبية الأخلاقية، أو تأسيس مشاريع خيرية ومعاهد ثقافية، أو عقد حلقات نقاشية ذات طابع علمي وفني غير تقليدي، يجدُ المتابع أن جمهوراً واسعاً بات يستأنس الكسل، والاحتفاء بطريقة فيها نوع من الاستعراض المادي، وتوزيع الأطعمة، والأهازيج، والرايات، فيما تتوارى أشكال التعبير الأخرى الأكثر نفعاً وعمقاً، وبالتالي، تتحول الطقوسية شيئاً فشيئاً من كونها مجرد هامشٍ على متنِ المذهب، جزءاً من تكوينهِ الأكثر صلابة!
لو ركزنا على قراءة الحدث ضمن حدوده التي وقع فيها، أي شريحة من المؤمنين الشيعة، سنجدُ أن هنالك تمدداً للخطاب الشعبوي داخل الوسط الديني، وهو خطاب جاء نتيجة صعود "الدعاة" و"الوعاظ" وتراجع دور "العلماء". حيث بات المؤمنون في كثير من الأحيان منصتين لأحاديث خطباء المنابر الذين تكاثروا في بلاد الرافدين بشكل مطرد بُعيد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وهو الذي عمل على تجهيل وتسطيح المجتمع، وبشر بـ"الحملة الإيمانية"، ولذا، نجد العراق مساحة تنتشر فيها الخرافة والأسطورة وممارسة عدد من الشعائر غير المنطقية، التي لم يألف الشيعة الإثنا عشرية وجودها من قبل، ولم يتناقلوها في مدوناتهم عن أئمتهم.
دائماً يروق لي أن أستعيد "نيتشه"، ومقولته "نحن في زمن الانحطاط الشامل"، وهو انحطاطٌ وتراجع في مستويات عدة لدى المجتمعات المسلمة، من أكثرها ظهوراً وخطراً تقدم العقل الغيبي ذي الطابع التبسيطي، على العقل النقدي والوقاد الذي يرفض الركون إلى المسلمات، ويبحث باستمرار عن سماوات أكثر اتساعاً، كي يمارس فيها تجريبه وحريته في التفكير خارج جميع الصناديق.
المسلمون اليوم، سنّة وشيعة، يواجهون أزمة حقيقية في طرائق تفكيرهم: إما أن يبقوا مشدودين إلى الماضي والفردوس المتخيل المفقود، الذي لم يعيشوه، وتناقلوه بسذاجة وطفولية عن الكتبِ التي لم يحققوا أكثرها بشكل علمي ومنهجي؛ أو أن يكونوا أفراداً ومجتمعات حديثة، قادرة على المشاركة في صناعة الحضارة والتكنولوجيا، وتنتج لاهوتاً جديداً، يُمكنُ المؤمن من ولوج الحداثة وممارسة إيمانه بسلامٍ ورقيٍ، بعيداً من التعصبِ والرثاثة و"سُباتِ العقلِ" الذي استعاذَ منهُ عليٌّ!
تعليقات
إرسال تعليق